الفساد ينبعث من تحت الرماد
د. ماجد الصمادي
23-07-2020 05:51 PM
لماذا في كل مرة نعتقد فيها اننا وأدناه، ينبعث في وجوهنا من جديد وكأنه طائر الفينيق الذي يحيى من تحت الرماد، وتخبو كل شعاراتنا الحالمة" بمحاربته" و" قصم ظهره" و "اجتثاثه" و" قطع دابره "؟!
لان الفساد ببساطة ظاهرة ملازمة للجنس البشري منذ خلقها، (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) وستظل الى ان يرث الله الأرض وما عليها. فالفساد هو الفساد بكافة احجامه؛ صغر او كبر، لا يقلل حجمه او يزيد من كونه ممارسة بشرية يغيب عنها الضمير وتمتد وتتوسع في البيئات التي تتدنى فيها مستوى الأخلاقيات، وتفتقد لآليات التجريم والردع الاجتماعي والقانوني الذي يجعل مرتكبه يتردد من كلفة الانخراط في الفساد.
الفساد موظف صغير يستغل وظيفته، ويتهرب من واجبه ومكان عمله ليباشر عملاً اخراً خاصاً به، و يطلب مالاً او منافع او خدمات حيال مهام في صلب عمله و يتقاضى عليها في الاصل راتباً او اجراً ، والفساد معلم تعمد في التقصير والغياب واخلص وتفانى في الدروس الخصوصية، والفساد طبيب نام في مناوبته وانتقى وميز في تقديم خدمة العمل الإنساني بين المرضى لإرضاء اقاربه وأصدقائه ومحاسيبه وخصهم بقرب المواعيد، او باع المرضى للصيدليات والمختبرات ومراكز الاشعة.
والفساد كذلك عبث بأموال الدولة وتطاول جرأة عليها، واساءة استخدام للسلطة والاحتماء بقوة المنصب والوجاهة الاجتماعية واختلاس ورشوة وابتزاز ومزاجية مسؤولين بالترقية والتعيين وخلق مناخات وظيفية طاردة للكفاءات، انه سلسلة واحدة مترابطة قد تؤدي بالنهاية لانتشار ثقافة مجتمعية خطيرة، عنوانها الرئيس أن الفساد أقوى من كل القوانين والأنظمة في الدولة وهو ما يشكل في النهاية تهديداً للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.
الدول التي وضعت حداً للفساد وجعلته في النطاق المقبول لاي انحرافات بشرية أخرى، وخصوصاً ان المدينة الفاضلة لم تقم يوماً من الأيام على هذه الأرض، ولن تقوم، لم تتوعده وتتهدده بأقوى العبارات، بل بدأت بالتجريم والنبذ الاجتماعي لمتعاطي الفساد قبل التجريم القانوني فجففت منابعه، وفرضت كلفة اجتماعية وجزائية عالية لكل متعاطيه افراداً او نخباً ومسؤولين.
وهنا أود إثارة عدد من التساؤلات، قبل مناقشة الخطوات التي بدأت بها هيئة النزاهة ومكافحة الفساد في الأسابيع القليلة الماضية ونجاعتها ، وهل الإجراءات التي تتم وفقاً للممارسات العالمية لتحقيق أعلى مستويات الشفافية والحوكمة الرشيدة: هل الفساد لدينا مجرم اجتماعياً؟ هل التهرب الجمركي والضريبي قيمة سلبية يخجل مرتكبها من المجاهرة بها؟ ام شطارة؟ هل الواسطة وتعيين الأقارب وأعضاء (الشلة) عيباً او مصدر فخر وإنجاز؟ وهل الفاسد صغر او كبر منبوذ؟ ام يتصدر المناسبات والجاهات وتفسح له صدور الجالس؟
في الحالة الأردنية، اكاد اجزم، بان البيئة الاجتماعية ومنظومة القيم السائدة في المجتمع تدعم الفساد ولا تدينه، وان ظهر عكس ذلك في مواقع التواصل الاجتماعي، ولن تثمر جهود تجفيف الفساد و تنقية القطاع الحكومي من سوء استخدام المال العام وموقع السلطة بكافة اشكالها من تعثر عطاءات أو مشاريع، او سوء تنفيذ، او من مبالغة مفرطة في كلفها، دون ادانة مجتمعية حقيقية للفاسد، فالمجتمع السليم يعيش فيه الشريف حراً سيداً ، ويعيش فيه الفاسد وحيداً منبوذاً، ينتظر حكم عدالة الأرض قبل عدالة السماء، والمجتمع السليم ايضاً يتصدر فيه المخلصون، لا لحسبهم ونسبهم، بل لعملهم وجدهم واخلاصهم فلا غربة في الوطن ناقمة منطوية تتحين فرصة الاغتراب، ولا غربة خارج الوطن مستسلمة لقدرها حالمة بنموه وازدهاره، ماقتة لكل امراضه.