المجتمع بين سندان (الشرف) ومطرقة (الإنسانية)
م. أشرف غسان مقطش
21-07-2020 02:51 PM
بداءة بدء نقرأ في كتاب (الجريمة باسم الشرف) لمؤلفته رنا الحسيني، الطبعة الثانية لشركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ص(253-254):
"أصبح واضحا بالنسبة إليّ [بالنسبة للمؤلفة]، من كل الحالات التي أفدتُ عنها، أن ما من قريب، ذكر أو أنثى، يريد القتل أو التورط في قتل زوجة، أو أم، أو شقيقة [ماذا عن الأخت والإبنة؟]. فهذا قطعا مناقض للطبيعة البشرية. يفعلون ذلك لأنه مفهوم محدد [الصواب: لأن مفهوما محددا] في شكل خاطئ للشرف تجري تغذيته منذ الولادة. وفي معظم الحالات، تترك العواقب النفسية للقتل هؤلاء الشبان والنساء كثيري الإضطراب، يحطمهم الشعور بالذنب ويجافيهم مجتمع لا يمكنه، ولا يريد، مساعدتهم على التصالح مع ما قاموا به.
والحالة التي تصب في هذا الإطار هي قضية سرحان، التي وُصِفَت في الفصل الثاني [من الكتاب السالف ذكره]، الذي تمنى لو أن 'الحل' في استعادة شرف عائلته هو أي شيء ما عدا قتل شقيقته. وقد رغب في أن يتم اعتقاله لفترة طويلة بحيث تفكر العائلات الأخرى مرتين قبل تحويل أحد أفرادها إلى قاتل. تحتاج الحكومات والمنظمات غير الحكومية إلى استخدام قتلة مثل سرحان ممن عبَّروا عن الندم والأسف، وتشجيعهم على أن يصبحوا من المدافعين عن هذه القضية ويتحدثوا في العلن ضد هذه الجرائم".
إنتهى الإقتباس، وبدأ المقال:
المسألة حساسة، ودقيقة، والمجتمع برمته واقع فيها بين مطرقة (الشرف) وسندان (الإنسانية).
وحديثي هنا يأتي في إطار الجانب المجتمعي من جوانب هذه المعضلة الإجتماعية الأخلاقية، وليس كوجهة نظر شخصية، لأنني شخصيا لن أقوم بقتل إحدى شقيقتيَّ أو أمي إذا تناهى إلى مسمعي بأن إحدى شقيقتيَّ تقيم علاقة مع رجل تحبه ويحبها، أو أن والدتي تخون والدي حاشاها، علما أن التربيات الأسرية والدينية والمدرسية اللواتي نشأن عليهن لا أعتقد أنهن قد تسمح لإحداهن باتخاذ مثل هذا القرار العائد لهن شخصيا وفقط لذاواتهن هن.
سيفور دمي، لا شك في ذلك، سأغلي من داخلي كل الغليان، لا جرم في ذلك، لكنني، سأحترم قرار أي منهن، فهذه حرية شخصية، ثم ولا واحدة منهن ملكي، ولن أدعي أن (إنسانيتي) ستطغى على (وحشيتي) لأن عندي من (الوحشية) ما يمنعني من الزعم ب (الإنسانية).
أما من الناحية المجتمعية؛ فصدقا لست أدري ما أقول، لأن مثل هذه المعضلة تتطلب منا كعرب عموما، كأردنيين خصوصا، النظر إليها بما هي عليه لا بما يجب أن تكون عليه.
فمن جانب، هناك بذرة (عقدة الشرف) المغروسة في أعماقنا لاشعوريا، من سالف الأزمان، والتي تجذرت في بواطننا مع مرور الزمن، وقد أشارت رنا الحسيني إلى هذه النقطة بقولها: "تجري تغذيته منذ الولادة" رغم أنني أخالفها في الجزئية التي تتمحور حول اللحظة التي تبدأ عندها "التغذية" إذ إنني أذهب إلى ما هو أبعد من "الولادة"، إلى توارث اللاشعور على مدار مئات السنين.
لربما لم يثبت العلم حتى الآن بشكل قاطع أن بعضا من اللاشعور أو كله متوارث أبا عن جد، لكنني أميل إلى الإعتقاد بذلك. وعليه؛ فإن مسألة (عقدة الشرف) بالنسبة لي لا تتوقف على كونها بنت المجتمع وحسب، بل إنها أيضا مسألة جينية، حتى لو كانت في إطار فرضية، لأننا إذا أردنا معالجة هذه المعضلة، يفترض بنا دراسة المحتمل من أمورها والمؤكد من شؤونها، حتى نصل إلى حل يرضي طرفي المعادلة المعقدة: (الشرف) و(الإنسانية).
يقول المفكر الياباني نوبوأكي نوتوهارا: "إن العرب يعانون من عقدة الشرف. فهم يخافون مما يسمونه العار. وهذا الشعور قديم قدم العربي في شبه الجزيرة العربية" (1). لعلني لا أغالي إذا ما قلت أن صاحبنا الياباني أصاب كبد "الحقيقة".
إذن "الخوف من العار" هو الذي قد يدفع الشخص العربي لقتل زوجته أو أمه أو شقيقته أو أخته أو ابنته، والأخيرتان كانت رنا الحسيني قد أسقطتهما من حساباتها في الجزء الأول من النص المذكور أعلاه، ولست أدري علة ذلك، ولربما سقطتا سهوا، وجل من لا يسهو.
فكيف السبيل إذن إلى إزالة "الخوف من العار" من نفسية وذهنية الشخص العربي عموما، الأردني خصوصا؟
ومن جانب آخر، هناك طوباوية (الإنسانية). فلو كانت (الإنسانية) حياة واقعية لنا كبشر، لما كانت كلمة (قتل) موجودة في معجم أية لغة من لغات العالم بأسره. لكن هذا لا يمنع من السعي إليها والدعوة لها والنداء من أجلها. ولهذا كان قلة من البشر ممن كانوا على درب (الإنسانية) يسيرون مناضلين مكافحين صابرين على كل ما يعتريهم من مصاب ومصاعب للإرتقاء برسالتها فوق كل نزعة عنصرية وعرقية وطائفية واقليمية ومناطقية ومذهبية ودينية وجنسانية، والترفع بها فوق كل العادات والتقاليد والأعراف والعقد النفسية والإجتماعية وعلى رأسها (عقدة الشرف)، وخير مثال على الناس في ذلك: غاندي، وممن dسمون بالأنبياء والرسل.
فكيف ننزل ب (الإنسانية) من علياء الطوباوية إلى دنياء الواقعية؟
إن "إزالة الخوف من العار" من قلبية الشخص العربي وعقليته عموما، الأردني خصوصا، وترويض وحشيته وأنسنة بهيميته الكامنتين في اللاشعور عنده ليس بأمر يتم بين ليلة وضحاها، ولا الترهيب ولا الترغيب يحققان ذلك في ساعة الحال ولو كان لدينا ألف عصا سحرية.
الأمر يحتاج إلى خطة أستراتيجية بعيدة المدى قد تمتد لعقود، يتسع مجالها رويدا رويدا من الأسرة فالحضانة فالمدرسة فدور العبادة فأجهزة الإعلام الرسمية وغير الرسمية، ثم المراكز والملتقيات والمنتديات الثقافية والشبابية والأندية ومؤسسات المجتمع المدني، وغيرها، هادفة إلى صياغة مفهوم جديد للشرف يترك انطباعا شديدا في المتلقي بأن الشرف لا يروح ولا يجيء؛ فلا يروح إذا كانت زوجتك أو أمك أو شقيقتك أو أختك أو إبنتك على علاقة مع رجل ما، ولا يجيء إليك بقتلها. بكلمات أخرى، أدمغتنا بحاجة إلى عملية غسيل مستدامة طويلة الأمد على كافة الصعد، ولربما لا أجانب الصواب في الإتفاق مع رنا الحسيني فيما ذهبت إليه بأن أفضل من سيقومون بعملية الغسيل هذه هم من على شاكلة سرحان، أي الذين ندموا على القتل تحت ذريعة (استعادة الشرف) وخوفا من العار.
هناك نقطة مهمة تجدر الإشارة إليها وهو: هل توجد دراسة علمية تبين وفق أسس إحصائية في أي طبقة من طبقات المجتمع تحدث فيها عمليات القتل بحجة (استعادة الشرف) أكثر من غيرها من الطبقات؟ أعني، لو حددنا مَنْهُوَّةَ الفقير ومنهوة الغني؛ فهل هناك دراسة علمية احصائية تثبت مثلا لا حصرا أن عمليات (استعادة الشرف) بالقتل تنتشر بين الفقراء أكثر من الأغنياء؟ أو العكس؟ أو أنها تنتشر بين المتدينين فعليا أكثر مما تنتشر بين المتدينين اسميا بغض النظر عن الديانة؟
إن مثل هذه الدراسات تساعدنا كثيرا في معرفة أي من فئات المجتمع بحاجة إلى تطبيق الخطة عليها أكثر من غيرها، وتسهل علينا أكثر لغة الخطاب مع تلك الفئات، وتوفر لنا الآليات المناسبة في الإرشاد والتوجيه والتوعية بالمفهوم الجديد للشرف.
بالمقابل علينا كمجتمع يريد الخير العام في المحصلة أن نتذكر أنه مثلما أن الإنسان قد يستسلم في أية لحظة أمام غرائزه الجنسية؛ فإنه أيضا قد لا يقوى قط على كبح جماح فورة غضبه عندما يرى مثلا لا حصرا صورة خليعة لزوجته أو شقيقته أو أخته أو ابنته أو أمه مع شخص ما أو بدون أحد ما، وفي وضعية جنسية ما أو حتى في وضعية عادية.
كذلك، يفترض بنا ألا نسقط مفاهيم حضارية وتقدمية على من لا يقتل شفيقته على سبيل المثال لا الحصر، لأنها تلتقي سرا بعشيق لها، وألا نجعل من الغرب معيارا لنا في الحضارة لا في هذه المسألة ولا في غيرها، وبالمثل، ألا نسقط مفاهيم بدائية وتخلفية على من يقتل ابنته مثلا لا حكرا، لأنه وجد رسائل غرامية بينها وبين عشيق لها على (الواتساب) أو غيره من وسائل التواصل الإجتماعي.
إن المفاهيم الحضارية والبدائية هي مفاهيم نسبية؛ فما هو تقدمي اليوم قد بمسي تخلفيا غدا، والعكس بالعكس، لهذا وجدتني أقول كوجهة نظر مجتمعية إن المجتمع برمته واقع بين سندان (الشرف) ومطرقة (الإنسانية) لا مطرقة (الحضارية) أو (التقدمية).
(1): كتاب (العرب: وجهة نظر يابانية)، لمؤلفه نوبوأكي نوتوهارا، الطبعة التاسعة (2016)، منشورات الجمل، ص(75)