نحو عروبة ديمقراطية ومتنورة
د. عزمي بشاره
06-06-2007 03:00 AM
لا مجال للحديث عن تعثر التحول الديمقراطي في الدول العربية دون أخذ مسألة إعاقة عملية تشكل الأمة الثقافية إلى أمة سياسية بشكل بدا طبيعيا في القرن التاسع عشر أسوة بأمم أخرى شيدت صرحها القومية السياسية التي انطلقت من قومية ثقافية قائمة. والحقيقة أن وجود قوم من العرب ووجود شعب عربي بالمعنى القديم للكلمة أمر مفروغ منه تاريخيا كما سبق أن طرحنا. ولكن القومية العربية بالمعنى الحديث هي ليست الشعب أو الشعوب العربية التي تميزت عن الأعراب والبداوة حتى في النص القرآني، ولا هي مجرد هوية وتضامن وتماه عربي حالي معروف وموجود يشكل عنصرا أساسيا من هوية العربي، ولا هي أمة عربية في دولة قومية تعيد الدولة إنتاجها بالمواطنة والاقتصاد المشترك والتعليم الرسمي ونمط الحياة الموحد كما تفعل الأمم الحديثة.ومع ذلك هنالك قومية عربية تتجاوز مسألة الهوية على أهميتها. وهي ليست مجرد أحد رد فعلين على الغرب كمحاولة استعمارية وكمشروع بديل يهدد الحضارة العربية الإسلامية كما ورد عند الجابري مثلا.1والحقيقة أننا نتفق مع الجابري على التكامل بين العروبة والإسلام، وأن طرح الخيار بينهما كهويتين لشعوب المنطقة هو طرح وهمي ومغرض. ولكننا نرى أن طرح الموضوع على مستوى الهوية تحديدا هو الذي يسمح بمثل هذا الإرباك. لأن طرحه كمجرد هوية، كأنه انتساب طوعي، وكخيار وهمي فردي للإنسان الحديث والمعاصر، يحجب عن الرؤية عملية صنع الهوية والإيديولوجيات التي ترافقها، وتطرح هذه الخيارات الوهمية بناء على أجندات سياسية واجتماعية مغرضة. ومجرد تفنيدها لا يفيد هنا، فالعضوية في جماعة متخيلة ليست صحيحة أو خاطئة، بل متخلية، وهذا التخيل هو جزء من الواقع.
والسؤال في النهاية يتلخص ب: ما هي الجماعة التي تشكل أساسا للكيان السياسي المسمى دولة؟ هل هو الجماعة القومية العربية أم الطائفة الدينية. ولا اقصد بذلك مفهوم الأمة، أي الأمة العربية أو الإسلامية. فمن زاوية نظرنا الأمة الحديثة هي مجموع المواطنين في الدولة، وأساس العضوية فيها هي المواطنة.
أما الأساس الثقافي والتاريخي الذي يتم تسييسه لكي يكون ممكنا الانتقال إلى الدولة\ الأمة بواسطة الحركات القومية والطبقات الوسطى ومثقفيها بواسطة أدوات تشكيل الجماعة المتخلية ( الطباعة، وسائل الاتصال، التعليم، كتابة التاريخ المشترك، وضع الأهداف السياسية بواسطة القيادات القومية والمثقفين...) فهو القومية. وفي القومية بعد متعلق بالهوية بلغة عصرنا، ولكن القومية أكثر من مسألة هوية تفضل على هويات أخرى في استمارة باحث أو استطلاع رأي.
القومية واقع وأداة وفكرة نهضوية
ونحن متفقون على أن القومية العربية هي واقع وأداة وفكرة نهضوية عبرت عن تطلع فئات عربية مدينية ومثقفين وطبقات وسطى نحو الحداثة، بما في ذلك الدولة القومية. كما نتفق على أن التدخل الاستعماري بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية منع تشكلها. وهذا لا يعني أن الأمة العربية كقومية بالمعنى الحديث للكلمة كانت قائمة وجزأها الاستعمار. وليس علنيا أن نثبت أنها كانت قائمة لكي يثبت حقها في دولة، فلم تكن أي من الأمم الأوروبية قائمة في الماضي، بل تشكلت تاريخيا. القومية واقع حديث ومفهوم حديث. وعربيا سياق إعاقة تشكله الى كيان سياسي يعبر عنه هو نفس سياق إعاقة تشكل أمم ديمقراطية برأينا. ومع أنه لم يعد ممكنا توحيد العالم العربي بالقوة كما جرى توحيد غالبية الأمم الأوروبية، وأشهرها الحالتان الألمانية والايطالية، فهذا يعني أن المنطلق يجب أن يكون طوعيا من قبل الدول العربية القطرية. وإذا كانت الأغلبية عربية على مستوى الهوية، فهذا يعني أنها يجب أن تكون دولا ديمقراطية تعبر عن رغبة الأغلبية في كل منها للوحدة العربية السياسية. الديمقراطية هي الطريق إلى الوحدة.
ولكن لكي تكون الديمقراطية هي الطريق إلى الوحدة يجب أن نفهم أن الهوية تصنع وتفكك، تنشأ وتزول، وأن المشروع القومي العربي في كل قطر عربي على حدة يعني فيما عدا المطالبة بالديمقراطية والنضال من أجلها أن تكون العروبة جزء من تصوره الديمقراطي هذا، تماما كما أن الديمقراطية يجب أن تصبح جزءا من تصوره للوحدة العربية. ويجب ان يكون واضحا ان العربية والعروبة كصمغ لاصق للأغلبية في كل قطر عربي هي الوحدة الضرورية لتعددية سياسية ديمقراطية، والأخيرة ضرورية لمواطنة متساوية لمن يعرف نسه كعربي أو غير عربي. فهي تمنع التحلل الى قبائل وعشائر ونواح وطوائف بدل التعددية. والهويات القطرية لم تنجح بذلك.
العربية ليس مسألة وحدة عربية يجب الاعتراف بالدولة القطرية للوصول إليها. بل هي ضرورة ماسة في كل دولة قطرية على حدة.
في نسخة مبكرة من العروبة المدينية الإنسانية والمنفتحة كان بالإمكان أن تتعايش مدارس الإصلاح الإسلامي مع قوى علمانية صاعدة في إطار نفس عملية التفاعل مع الغرب ومع الحداثة انفتاحا ودفاعا عن الخصوصية في آن. وخلافا للسلفية الصحراوية الوهابية التي عاصرتها بدت حتى السلفية المدينية الإصلاحية متجهة نحو إحياء اللغة والثقافة القومية وتنقية الدين مما علق به من بدع وخرافات رادفت في نظر المصلحين أسباب التخلف لتنطلق من الأصول مباشرة دون تقليد نحو مواجهة تحديات العصر.كما تزامنت مع عملية صهر ثقافي وتعريب طوعي لعناصر تركية وشركسية وكردية ومملوكية وسريانية وكلدانية في المدن العربية. لقد جمع الإحياء القومي في بدايته عند لسنج وهيردر وغيرهما نزعة إحيائية للعصر الكلاسيكي مع رومانسية قومية مع نزعة إنسانوية كعناصر في نفس تيار النهضة، وكانت أفكار النهضة العربية تسير على طريق شبيه.
لقد انقطع تطور هذه العروبة عند التقسيم الاستعماري الذي جعلت الثروة إطارا سياسيا والحضارة والمدنية إطارا آخر.2 كما انقطع عند موقف حركتها السياسية المتأخرة المعادي لمنجزات المرحلة اللبرالية باعتبارها مرتبطة بملاك الأراضي الزراعية وأبنائهم في برلمانات وحياة حزبية في ظل الاستعمار، وانقطع في قيام الدولة التي تخبطت بين مهمتها القومية بإنشاء الوحدة وبين متطلبات الدولة- الأمة والحفاظ على نظام الحكم. وكانت النتيجة انغلاق القومية كإيديولوجية تقبل بالأفراد رعايا لا مواطنين. كما انقطع مسار تطورها النهضوي بتحولها إلى إيديولوجية تبريرية لهذا الواقع أو إلى إيديولوجية عدمية منتفضة عليه.
وقد ظهرت إيديولوجية دينية سياسية وقفت ضد انتهازية الإيديولوجية القومية كإيديولوجية تبريرية لأنظمة ومظاهرها المشوهة في الحكم، وبدت أكثر مثابرة في التمرد من الثانية. وهي إذ رفضت القومية تبنت في الواقع الخطاب القومي الجماهيري ومفهوم الدولة ونظام الحكم في مرحلة انحطاط هذا الخطاب وانغلاقه وأخضعته لعملية تديين وتقديس.
وبعد أن ارتكبت القومية ذاتها في مرحلة انحطاطها تحويل الانتماء الثقافي والسياسي وعملية بناء الأمة الحديثة من عملية تاريخية هي عملية بناء المؤسسات الحديثة إلى عقيدة غيبية، قامت الإيديولوجية الدينية الجديدة بتحويل العقيدة الدينية إلى هوية وانتماء أشبه بالقومية. فنشأ الخطر المعاصر أن يخسر العرب العالمين: عالم الدين كوازع أخلاقي وكعقيدة إيمانية حرة، وعالم القومية كخطاب حديث يسعى إلى بناء أمة حديثة. والأمة المواطنية الحديثة هي نحو الداخل: دولة- مجتمع مدني قائم على المواطنة، وهي نحو الخارج: دولة- قومية.
صناعة الهوية
لم يستخدم القوميون العرب الأوائل مصطلح الهوية الإيديولوجي الرائج حاليا. ولكنها إذ نوصبت العداء، وإزاء صناعة الهويات الطائفية والقبلية كتضامنات سياسية بديلة لها، اتخذت مسار صناعة الهوية، والإيديولوجية كفكر ثوري أو تبريري مطواع في خدمة غاية سياسية. وأدلجة الانتماء كولاء وهوية لا بد أن تحمل في طياتها تعصبا، وفكرا وحدويا نحو الداخل أيضا، معادٍ للحزبية والحريات باعتبارها مدعاة لتشتت الأمة واستمرارا لمحاولات شقها من الخارج. ويسأل بالطبع السؤال: وهل كانت الهوية العربية قبل ذلك بريئة من النوايا السياسية؟ هل كانت مجرد لغة وثقافة ووعاء حضاري؟ والجواب هو قطعا لا. فهي مثل أي رابطة تستند إلى لغة وحضارة وتتقاطع فيها الجغرافية والتاريخ مع اللغة ومع وهم الأصل المشترك تطوِّر قومية وينشأ معها توق هذه القومية التحرري لتكوين وحدة سياسية ضد الاستعمار أو ضد الإقطاع أو ضد التشتت والتشرذم، أي أن تغدو أمة سياسية، أي أن تتطابق مع الدولة.
ولكن خصوصيتها نبعت من أن تحول هذه العناصر المشتركة إلى قومية العربية لم يكتب له الاستمرار في واقع الدولة التاريخي الملموس. فازداد وزن المركب الإيديولوجي في القومية، للتعويض عن الانخفاض في مركب الممارسة العملية. وكان الفيض الإيديولوجي بديلا عن النقص في الواقع.
وتحمل الفكرة والإيديولوجيات القومية جوانب ديمقراطية متنورة إلى جانب الفكرة الجمعية التي تشدد على الهوية والانتماء، ولكي تتمكن من الانتماء للمجتمع تتخيله جماعة عضوية مثل القبيلة. ومن بين العناصر الأولى نجد التأكيد على تعميم التعليم وإحياء الثقافة واللغة القومية، وعلى شطب امتيازات الطبقات التقليدية ما قبل المرحلة القومية تمهيدا لتعميم المواطنة والمساواة أيضا، وعلى إشراك الجماهير وعلى قيم مثل العدالة في توزيع الثروة وغيرها مما تتحدث باسمه القيادات القومية الأولى مثل مشاركة الجماهير لكونهم جزءا من الأمة، وقد يقود ذلك إلى يعقوبية راديكالية كما قد يقود إلى مساندة الديمقراطية كتعبير أفضل عن سيادة الأمة.
وكما أسلفنا تحمل الفكرة والحركات القومية عناصر رجعية كامنة في الفكرة القومية كمجتمع من الأفراد لا يمكن تخيله إلا كجماعة متخيلة عضوية، يتم تخيله كأنه قبيلة أو عشيرة تطلب ولاء وانسجاما كاملا من الفرد كعضو في جسم حي، وتنفر من الحزبية كعملية شق لوحدة الأمة، كما تكمن في تخيلها المزايا القومية كعبقرية مشتقة من روح وجوهر وطبيعة الشعب، أو من جغرافيته وإقليمه، أو من تاريخه ومعاناته، وبالتالي رسالته التاريخية المزعومة للإنسانية والنابعة ليس مما يجمعه مع بقية الإنسانية بل من خصوصيته.
لقد حملت الفكرة العربية والثقافة السياسية العنصرين منذ البداية. وكان يفترض أن يتحقق صراع حاسم في الدولة العربية ومن خلال بناء الأمة بين هذه العناصر، ولكن الدولة العربية لم تقم. ودار صراع بينها في عمليات التأميم والإصلاح والتعليم والخطاب الشعبوي، ولكنه بقي مبتورا يتجسد حاليا في كم هائل من المتحجرات اللفظية والهذر الكلامي والمزايدة خاصة لأنهما بقيا رهينة تأثير العوامل الخارجية وعدم تحقق حق تقرير المصير للأمة العربية، ولا الانسجام بين مفهومها كقومية وبين الدول القطرية.
لم تكن الفكرة القومية العربية كما يدعي المستشرقون وبعض الإسلاميين نتاج جهد أقلياتي للانتماء إلى الأكثرية العربية في بلاد العرب ضد الهوية الإسلامية للإمبراطورية العثمانية.
العروبة كمعنى ايجابي
فالعروبة كانت قائمة على شكل لغة وثقافة وعصبية قبل المرحلة القومية في الدول الإسلامية المتعاقبة، بما فيها العثمانية. وخلافا للفظ الأعراب الذي يصف البداوة والذي ورد بمفهوم سلبي في القرآن وتعوذ الصحابة من التعرب أي العودة الى البداوة، فان العربية والعرب وردت بمعنى إيجابي. فعن الأعراب ورد في القرآن أوصاف وأحكام سلبية للغاية: قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان قلوبكم (الحجرات: 14) وأيضا الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر الا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، والله عليم حكيم. ولأن الإسلام ارتبط مع التحضر فإن العودة الى البادية كانت تعني نوعا من الارتداد بالنسبة للصحابة. ولا أساس لاعتبار كلمة عرب كما يدعي بعض المصريين في أيامنا بالبدو والبداوة، فحتى القرآن الكريم قد ميز بينهما تمييزا واضحا قاطعا، إذ وصف ذاته بأنه قرآن عربي في عدة آيات، وكذلك أنه نزل حكما عربيا، أي حكمة عربية. وفعل ذلك أيضا الرسول عليه السلام. ويلاحظ الفخر الرازي أنه عليه السلام قال:حب العرب من الإيمان، وأما الأعراب فقد ذمهم الله.3 أما العروبة كقومية فلم تنشأ عن عناصر أقلياتية في مصر بل عن الإصلاح التعليمي الرسمي الذي قاده محمد علي وإسماعيل وعن نشوء الوطنية المصرية ذاتها ضد الانجليز وتفاعل هذه الوطنية مع ثقافة بلاد الشام ثم تعربها سياسيا في الصراع مع الصهيونية على أرض فلسطين. أما في المشرق فلم تكن النزعة العربية عند مسلمي ومسيحيي بلاد الشام انفصالية بداية، بل ثقافية تطالب بالمساواة للعرب أو الحكم الذاتي في إطار العثمانية ضد التتريك، ثم انفصالية في تفاعلها مع حركة عروبية غير قومية بل تقليدية الطابع تسعى إلى خلافة عربية في الثورة العربية 1916.
لقد فاقت عروبة الكواكبي سياسيا عروبة اليازجي العربي المسيحي العثماني سياسيا، كما جمعت العروبة السياسية ادموند رباط وعبد الرحمن الشهبندر ثم ساطع الحصري وقسطنطين زريق. وكانت العملية طبيعية ومتدرجة ومعتدلة الطابع ومتنورة اجتماعيا وسياسيا. كما كان طابعها العام، إسلاميا كان أم علمانيا، مرتاحا في إطار الحضارة الإسلامية ومؤكدا عموما على عدم الفصل بين العروبة والإسلام. وبهذا المعنى اعتبر القوميون المسيحيون في هذه المرحلة الرسول الكريم والخلفاء الراشدين رموزا وأبطالا قوميين تماما كما اعتبر المسلمون والمسيحيون العرب صلاح الدين بطلا قوميا بغض النظر عن أصوله غير العربية.
ولم تتحمل هذه العروبة ولا حتى جزء من المسؤولية عن انهيار الإمبراطورية العثمانية، التي باتت هي ذاتها مدخل تأثير الاستعمار الغربي وإملاء شروطه عليها بسبب ضعفها قبل تحالف حركة عربية تقليدية مع الانجليز، بل أصبحت القومية العربية بعد انحلال عقد التحالف بين القيادة العربية من الجزيرة والانجليز قناة الصراع الرئيسي مع الاستعمار عموما في العقود التي تلت. أما الإمبراطورية العثمانية فقد تحولت إلى حكم تركي قبل أتاتورك. ولم تختلق جمعية الاتحاد والترقي التتريك بفعل تأثير أقلياتي يهودي هذه المرة كما يدعى، بل برزت أهم معالم التتريك في بنية السلطة والهيمنة عند السلاطين أنفسهم ويؤكدها عبد الحميد في يومياته كموقف. لقد كانت العروبة آخر من تمرد على الإمبراطورية، وخلافا للقومية التركية، وقبلها الفارسية، لم تنجح القومية العربية في إقامة دولتها.
عروبة غير عنصرية
هذه العروبة لم تكن عنصرية ولم يدع فقهاء وعلماء المسلمين في حينه مثل هذه الادعاء. بل كان هذا ادعاء التدين الحركي السياسي في مراحل متأخرة فقط. وعندما طرحت العقيدة بشدة وتطرف كأساس لولاء الأمة في مقابل الرابطة القومية العنصرية المثيرة للفرقة والعداء بين الشعوب أنما طرحها هندي ممن قام تميز طموحهم السياسي عن بقية الهنود على أساس ديني لا قومي، وهو الإسلام الحركي السياسي الهندي على لسان أبي الأعلى المودودي. وحتى ترجمت هذه الأفكار إلى العربية لم يكن الموقف الإخواني من القومية العربية بهذه الحدة.
وعلى كل حال وكما بدأنا هذا المقال، إن من نادى بتميز عقيدي ما لبث أن انتهى إلى هوية دينية في مقابل هويات قومية، ثم تحدث عن أغلبية دينية تبرر هذه الهوية، أغلبية تحسب بالولادة لا بالإيمان الفعلي كما في حال الصيغة العنصرية من القومية، أي بغض النظر عن الإيمان الفعلي بالعقيدة الذي برر بداية نسخ مفهوم الأمة القديم كجماعة المؤمنين ضد الجماعة القومية. وهكذا من جماعة العقيدة انتهينا إلى الطائفة عمليا. والطائفية من ناحية وظيفتها التاريخية لا تشق وحدة الأمة فقط في حالة تعدد الطوائف، بل تمنع تفرد الفرد كمواطن في إطارها حتى لو كانت طائفة واحدة. فالطائفة السياسية مثل العشيرة تمتص ملامح وخصوصية ومواقف الفرد، ولا تعرف فردية وحقوق المواطن خارج الانتماء لها.
هذا النوع من رفض القومية رفض أفضل ما في القومية كأساس لوحدة الأمة، ولكنه أخذ منها عناصرها الرجعية ونسبها لنفسه، فالطائفية السياسية في عصرنا هي قومية دينية، تحمل أسوا ما في القومية. إنها نتاج تحول الانتماء الطائفي إلى انتماء سياسي قومي الطابع.
فشل الهويات القومية
ولم تنجح الهويات الوطنية القطرية في استبدال القومية العربية. وربما حققت بعض الأنظمة هنا وهناك نجاحات على مستوى صناعة الهوية، كما قد نقيس ذلك بمعيار مهم مثل التعصب لفرقة رياضية محلية ضد بلد عربي آخر، أو لبطل أو مغني محلي في مسابقة غناء عربية. ولا اقترح الاستهانة بمثل هذه الإشارات لنشوء هويات قطرية. ولكن الجماعة السياسية بقيت عربية، تتطور هذه بتفاعل مع تلك. وأخفقت صناعة الهوية الفينيقية والفرعونية والبابلية والكنعانية. وإذا كانت القومية أشبه بجماعة عضوية، ولكنها جماعة عضوية متخلية، فلا يمكن للفرد في أي بلد عربي تخيل نفسه بأدوات اليوم فرعونيا أو بابليا إلا كمركب مصنوع في صناعة الهويات. وأدوات التخيل مثل اللغة والتاريخ والأدب والملاحم والبطولات ووسائل الاتصال هي عربية إسلامية، أو مستمدة من وطنية محلية معادية للاستعمار في مرحلة عروبة الحركات الوطنية حتى قبل أن تصوغها الإيديولوجية. لا تستطيع الهويات الوطنية المحلية التغلب على الطائفية، لأنها غالبا أقل شرعية منها، أو لأنها بنيت على التوازن الطائفي، أو على سيطرة طائفة من العهد الاستعماري.
ولكن العروبة تشمل السنة والشيعة والمسلمين والمسيحيين العرب. وفي حالة دولة وطنية تاريخية بجماعة تتمتع بثبات تاريخي نسبي مثل مصر والمغرب مثلا، فإنها في مرحلة القوميات تأثرت بالقومية العربية وتوحيد السوق الثقافي والإعلامي العربي وبالأجندات السياسية العربية. وهذه عملية مستمرة حتى يومنا. فالقومية العربية صيرورة مستمرة بموازاة لعملية بناء الدولة العربية والهويات المحلية وبتفاعل معها. ولأن الهوية العربية هوية تشمل أغلبية المواطنين لغة وثقافة وانتماء فإنها قادرة أن تقدم حتى في كل دولة على حدة وعاء لتأطير الخلاف السياسي في تيارات ومواقف ومصالح عند الأغلبية ومن خلال احترام حقوق غير العرب المتساوية كمواطنين أفراد وكجماعات لها حقوق. فمن حق مثل هذه الجماعات بنظر العروبة المنفتحة والإنسانية الحصول على حقوق ثقافية جماعية في حالة تأكيدهم على هوية ثقافية غير عربية موروثة أو حتى مصنوعة.
@ كاتب ومفكر عربي
.............................................................................................................................................
1 محمد عابد الجابري، مسألة الهوية- العروبة والإسلام... والغرب، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية 1995) ص. 21-52.
2 لا يوافق الأنصاري مثلا على هذا التوصيف ويرى أن لا فرق بين الأقطار العربية بمعنى أن العقلية القبلية تهيمن عليها جميعا، ولكننا نستغرب عدم رؤية الفرق بين حاضرات الشام ومصر وغيرها وبين درجة التطور في دول وإمارات الجزيرة العربية، وهل يجوز تجاهل الفرق. محمد جابر الأنصاري، التأزم السياسي عن العرب وموقف الإسلام- مكونات الحالة المزمنة، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1995).
3 الأنصاري، مصدر سبق ذكره، ص. 103.