(1 ) : منذ القدم إشتهر العرب دونا عن سائر الخلق بأن "مهنتهم" إن جاز الوصف هي الكلمة, شعرا نثرا, ولذلك صاروا من أكثر الأمم فصاحة وبلاغة وجزالة ألفاظ ومعان ورمزيات وتلميحات وتصريحات.
فقد برعوا في الشعر مدحا وهجاء وسبروا أغوار اللغة ومعاجمها في دقة الوصف وفقا للواقع أو حتى وفقا لأهوائهم في حب فلان أو كره علان. لكنهم تميزوا عموما بعفة الكلمة التي لا يمكن أن تنزلق إلى التدخل في الخصوصيات أو الخوض في الأعراض وترفعوا عن ذلك لا بل وعدوه من المحرمات, ولذلك وعلى سبيل المثال لا الحصر, فالعربي يودع ضيفه وقد إستضافه وأكرمه لأيام قائلا له "عرضنا وداعتك", أي إن كنت قد لاحظت شيئا يمس عرضنا فهو وداعتك التي تستحق الستر.
(2 ): الكلام أعلاه يؤشر في المجمل على أن العرب وقد تفاخروا ولا يزالون بالفروسية وبالأنساب وبالكرم وبالصفح ونصرة المظلوم ونجدة الملهوف, هم في المجمل أهل سياسة, فالسياسة تطغى إيجابيا وسلبيا في شؤون حياتهم على ما سواها, ولذلك هم يتنافسون ويتخاصمون حبا في الزعامة وتقدم الصفوف ولكن من دون شطط أو تطرف وإنما خصام فرسان وأخلاق فرسان تأبى الإنحدار إلى ما هو أدنى وتحرص على التسامي فوق الأحقاد والتشفي والحسد وغث القول أيا كانت الخصومات.
(3): ومع تقادم القرون والعقود طرأت تغيرات ودخلت مفاهيم جديدة وبدأ تحول تدرجي عن السياسة صوب المهن والحرف العملية والتجارة المستمرة التي تدر دخلا لا بد منه للوفاء بإستحقاقات العيش ومتطلباته, وهنا ظهر تنافس من نوع آخر جلب معه سمات وصفات وممارسات مستجدة عنوانها الإستئثار والإقصاء والطمع والجشع, وعلى نحو لم يكن ظاهرا في حياة العربي عموما في أزمنة وقرون خلت, وبدأت الحياة تفسد بتدرج خلافا لما وجب أن تكون وفقا لإرادة الخالق سبحانه.
(4): ليس سرا أبدا أن حب المال يطغي ويغير النفوس إلى قيم سلبية لا إيجابية فيها, ولهذا فقد قدم الله المال على الأبناء في قوله تعالى "المال والبنون زينة الحياة الدنيا", فالناس كل الناس تسعى جاهدة لجمع المال وإكتنازه كل بحسب قدراته وهذا حق متاح, لكن منهم من يجمعه حلال ومنهم حراما, وهنا يتمايز الناس ليس في نظر العامة وحسب بل وفي مواقعهم ومواقفهم أمام وبين يدي الله جل جلاله في الدنيا وفي الآخرة معا.
(5): ونذهب إلى حكي آخر، وهو, كلام يوزن بالذهب عندما يقال في زمانه الصح ومكانه الصح وبإسلوب صح وبمفردات راقية صح, وكلام آخر يوزن بالتنك مع إحترامي للتنك, يقال على نقيض كل ما سبق زمانا ومكانا وأسلوبا ومفردات. وبرغم أن كليهما كلام, إلا أن الأول ينجي ويفيد وينفع الصالح العام, فيما الآخر يهلك ويضر ويؤذي الصالح العام, فالأول من ذهب والثاني مجرد ثرثرة كغثاء السيل, وما أكثره في هذا الزمان المنفلت أناسه من عقالهم.
(6): ونتجاوز إلى ما هو أسمى فنقول.. لو أن الناس أو الغالبية العظمى من الناس "تكبر عقولها" على طريقة كبر عقلك وترفع عن سفاسف الأمور, لعاشوا جميعا ونحن معهم ومنهم عيشا كريما مباركا لا نكد فيه. فعندما تطغى الثرثرة وتطلق الأحكام جزافا وتزدحم الطريق بالرويبضة فأعلم أن الدنيا بخير لكن الناس ليست بخير.
(7): ختاما وعلى هامش الحكي.. إذا إستمر حال العرب على ما هم فيه اليوم من تشتت وفرقة وتيه أمام صولات الأعداء ومخططات حتى "الحلفاء", فسيعود الإستعمار الذي هزمه الآباء والأجداد من جديد إذ يثبت العرب كل يوم وبالدليل القاطع, أنهم ليسوا أهلا للعيش سادة وقادة في وطن عربي موحد لم ينعم الله على أرض سواه بمثل ما أنعم عليه من خيرات وبركات روحانية وعقائدية ودينية وإقتصادية وجغرافية وبشرية وسياحية جعلت منه ملتقى الحضارات ومنبع الخيرات ومصدر الحركة لسائر شعوب الكوكب ودوله وكل ما فيه. الله ولي التوفيق وهو من وراء قصدي.