التكافل الاجتماعي خلال الجائحة
د. دانييلا القرعان
15-07-2020 05:35 PM
يُعد التكافل الاجتماعي من أبرز مظاهر التراحم والتعاون بين أبناء المجتمع الواحد حيث يتسارع المسلمون والمسلمات إلى التخفيف من أزمات غير القادرين والتأكيد على دعمهم في مواجهة أي ضائقة،ولعل الأجواء التي يعانيها العالم جراء إنتشار فيروس كورونا الجديد (كوفيد_19) فاقمت أوضاع الملايين بسبب الإجراءات التي اتخذتها الحكومات لإحتواء انتشار الفيروس،والتي تضمنت وقف الأنشطة الإقتصادية بشكل عام، وكان أكبر الضحايا جراء ذلك هم صغار العاملين وعمال المياومة،الأمر الذي عزز بشكل كبير أهمية التكافل الاجتماعي ولا سيما في دول العالم الإسلامي.
التكافل الاجتماعي هو الحل الإسلامي والحل الوطني لسد حاجة الفقراء والمحتاجين وعدم وجود أي جائع أو محتاج لا يستطيع العيش في ظل وجود قادرين على مساعدتهم، ومن الملاحظ أن أجواء كورونا فتحت أبواباً واسعة إلى الجنة أمام القادرين والميسورين نتيجة أوجه الخير الكثيرة والمطلوبة والمتاحة في هذا الوقت سواء من حيث التبرع وتقديم المساعدة وعلاج المرضى بالمجان، أو لدعم العمالة المؤقتة التي فقدت مصدر دخلها بسبب أجواء الحظر وإغلاق الأنشطة الإقتصادية .
إن الأجواء الحالية أتاحت الكثير من الفرص للتكافل الاجتماعي كإطعام الفقراء والمحتاجين الذين كانوا ينتظرون موائد الرحمن في شهر رمضان المبارك لتناول الطعام وتم حضرها بسبب إجراءات احتواء فيروس كورونا، حتى وصل التكافل الاجتماعي في ظل هذه الظروف على صعيد التبرع لدعم البحث العلمي من أجل العثور على علاج لمرضى كورونا.
مبدأ التكافل الاجتماعي ليس مبنياً على تقديم أوجه المساعدة وقت الضعف والحاجة فقط،وإنما يستمد التكافل الاجتماعي في الإسلام ومبناه الشريعة الإسلامية والذي يحقق مبدأ الولاية المتبادلة بين المؤمنين في المجتمع إعمالاً بقوله تعالى «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »، ونلاحظ أن القرآن الكريم مليئ بالآيات التي تحث المسلمين على التكافل سواء تطبيقاً لمبدأ التعاون أو المساعدة المادية،ويقول سبحانه وتعالى في محكم تنزيله «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» فهذه الآية الكريمة تتحدث بشكل واضح وصريح عن تحقيق مبدأ التعاون الذي يخرج من رحم التكافل الذي أمر به الإسلام.
التكافل الاجتماعي في ظل هذه الظروف يحثنا على تقديم المساعدات المادية للأسر الفقيرة والتي تأذت بفعل جائحة كورونا والتي لا يوجد معيل لها لأستمراية ديمومة الحياة فيها بالإضافة إلى الأمر بالمعروف والإصلاح بين الناس لذا علينا تطبيقها بيننا تنفيذاً لقوله تعالى في سورة النساء «لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا»، وكذلك هنالك الكثير من الآيات القرآنية التي تحث المسلم والمسلمة على دفع المال للمحتاجين والمساكين والذي يُعد إحدى صور التكافل الاجتماعي، يقول سبحانه وتعالى بسورة البقرة « لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ»، وبالإضافة إلى الآيات القرآنية التي حثت على التكافل الاجتماعي هنالك أيضا أحاديث كثيرة حثت على التكافل والتعاون والتعاضد مع أبناء المسلمين في ظل الظروف العادية والاستثتائية،قال الرسول صلى الله عليه وسلم " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم "“المسلم أخو المسلم لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيام، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة".
"التكافل الاجتماعي لتجاوز مخاطر كورونا"، في ظل خطر تفشي فيروس كورونا فإن التكافل والتعاضد الاجتماعي من شأنه تقوية الروابط الروحية بين الأفراد ويعد نواه صلبة لمجتمع متكامل وصمام أمان ضد المخاطر الإجتماعية بسبب تداعيات الفيروس وما تسبب به الفيروس من بطالة وفقر وضغوطات إقتصادية بسبب شل الحياة الإقتصادية ضمن التدابير الاحترازية للحيلولة دون تفشي فيروس كورونا في المجتمع،ومن المعلوم أن زرع المودة بين شرائح المجتمع ضرورة مهمة،لذا فإن التكافل والتعاضد الاجتماعي ليس مقتصراً على النفع المادي وإن كان ذلك ركناً أساسياً فيه بل يتجاوزه إلى جميع حاجات المجتمع أفراداً وجماعات مادية كانت تلك الحاجات أو معنوية أو فكرية على أوسع مدى لهذه المفاهيم ،فهي بذلك تتضمن جميع الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات.
إن مشاركة أفراد المجتمع في المحافظة على المصالح العامة والخاصة ودفع المفاسد والأضرار المادية والمعنوية حيث يشعر كل فرد فيه أنه إلى جانب الحقوق التي له والتي عليه واجبات للآخرين وخاصة الذين ليس بإستطاعتهم أن يحفظوا حاجاتهم الخاصة؛وذلك بإيصال المنافع إليهم ودفع الأضرار عنهم،ويبدأ التكافل الاجتماعي في محيط الأسرة بين الزوجين بتحمل المسؤولية والشراكة في القيام بواجبات الأسرة ومتطلباتها كل بحسب وظيفته الفطرية التي فطره الله عليها وينتهي إلى ما هو أعم وأشمل وأبعد من ذلك.
"الدور الحكومي في تحقيق التكافل الاجتماعي"، إن الحكومة وأمام هذه المحنة والازمة والظرف الاستثنائي والذي يتمثل في وباء كورونا لا يمكنها لوحدها أن تقوم بالمتطلبات التي يتطلبها المجتمع للخروج من هذه الأزمة بفعل تفشي الوباء في العالم ولا يمكن للحكومة أن تقوم بواجباتها نحو تحقيق التكافل الاجتماعي إلا إذا ساهم معها أبناء المجتمع في بناء العدل الاجتماعي والبذل والإنفاق ابتغاء وجه الله تعالى ورحمته وجنته وغفرانه والوصول إلى مجتمع يتسم بالتراحم والتعاضد والتآخي والتعاون،وأن هذا التعاون والتآخي والتعاضد على تفقد أحوال الناس المحتاجين بكل أطيافهم وتنوعاتهم يساهم في التخفيف من خوفهم وهلعهم وبث الطمأنينة والسكينة في نفوس الجميع، وعلينا تفعيل التكافل والتعاضد الاجتماعي بكل صوره وطرقه وتشعباته وأشكاله ابتداءاً من المحيط القريب ووصولاً إلى المحيط البعيد وبعدل ومساواة بين الجميع فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته.
"أزمة كورونا تعزز التكافل الاجتماعي"، ساهمت أزمة زورونا وتداعياتها في تعزيز النسيج والتكافل الاجتماعي بكل صوره وطرقه بين مختلف أبناء المجتمع المحلي ومد يد العون لهم،كما أطلقت العديد من مؤسسات المجتمع المدني والهيئات واللجان التطوعية والشبابية مبادرات وصناديق تبرع لتساهم في تقديم الدعم والمساندة للفئات الفقيرة والمحتاجة وذوي الإحتياجات الخاصة والمتعطلين عن العمل، وهنالك العديد من أبناء المجتمع الواحد يساهمون في جمع التبرعات وتوفير الإحتياجات الأساسية من مواد تموينية أو غيرها لتوزيعها على مستحقيها للوقوف إلى جانب الوطن والجهود التي تبذل من كافة الجهات المعنية في مثل هذه الظروف الطارئة الاستثنائية لمواجهة فيروس كورونا، وبالرغم من ضغوطات الحياة وضيق الوقت إلا أن هذه الأزمة جددت روح التعاون والتعاضد والمسؤولية الجماعية والتكافل الاجتماعي مما يساهم في تعزيز العلاقات الاجتماعية وعمق الصلات الأسرية والاخوية مثمنين جهود كافة الجهات التي تعمل من أجل توفير كافة احتياجات المواطنين والوقوف معهم في مثل هذه الظروف،ويتم أيضا التعاون مع عدد من المتطوعين من أجل توزيع مادة الطحين على الفقراء والمحتاجين في عدد من مناطق المملكة مع مراعات الألتزام بالتعليمات والإجراءات الوقائية والاحترازية، وما يعزز ذلك أيضا أن ديننا الحنيف دعا إلى التكافل الاجتماعي وتعزيزه في الرخاء والشدة من خلال إخراج الصدقات والتبرع لمساعدة الفقراء والمحتاجين الذين يعانون في وقتنا الراهن بسبب
جائحة كورونا،فالكثير منهم لا يجد قوت يومه بسبب التوقف عن العمل،الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى إطلاق المبادرات التي تسهم في مساندتهم في مثل هذه الظروف.
"من المسافة الاجتماعية إلى التكافل الاجتماعي"، حذرت الأمم المتحدة بأن نصف مليار انسان ربما ينحدرون إلى حافة الفقر في ظل تردي الأوضاع الإقتصادية جراء انتشار فيروس كورونا،فالمنطقة العربية لوحدها مهددة أن تفقد 107 مليون وظيفة على الأقل في عام 2020.
أريق الكثير من الحبر على تلك التنبؤات التي تتعلق بشكل الحياة والنظام الدولي والواقع الاجتماعي ما بعد جائحة كورونا، ذهب البعض في تنبؤاتهم مذهباً بعيداً عندما رأوا إننا مقبلون على حياة تختلف جذرياً على مستوى علاقات القوة سواء على المستوى الدولي أو على مستوى المجتمعات المحلية، فالصين مثلاً سوف تجني المزيد من النفوذ على حساب الولايات المتحدة الأمريكية بينما سيؤدي فشل بعض الحكومات في التعاطي مع الجائحة الى سقوطها وربما ظهور حركات اجتماعية مناهضة للتقشف والإنفاق الحكومي تعمل على تهديد استقرار العديد من الأنظمة، وإذا كان كل ما سبق يبقى في إطار التكهنات فإن الشيء الأكيد ربما والذي تشير إليه الكثير من الأرقام هو التأزم الذي أصاب الاقتصاد العالمي والذي سوف يدفع الملايين من الناس إلى شرك الفقر مجدداً،لذلك فإن الإجراء الذي يجب أن تسارع الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية إلى اتباعه هو إعادة إحياء أو تشكيل وتقوية منظومة التكافل الاجتماعي والتي من شأنها أن تفرمل أي تداعيات كارثية للجائحة على الشرائح الأكثر ضعفاً في المجتمع أي ضرورة الانتقال من المسافة الاجتماعية إلى التكافل الاجتماعي فالبنك الدولي يقول أنه وللمرة الأولى منذ عام 1998 من المتوقع أن ترتفع معدلات الفقر والبطالة، كما أن تقديرات الأمم المتحدة تشير أنه وبحلول نهاية هذا العام قد يجنح نصف مليار شخص حول العالم إلى الفقر المدقع وذلك إلى حد كبير بسبب جائحة كورونا، وهذا التأثير الكارثي لفيروس كورونا لا يشمل فقط اقتصاديات الدول النامية بل يشمل أيضا اقتصاديات الدول المتقدمة.
إن سياسة التباعد الاجتماعي التي أتبعت للحد من انتشار الجائحة والسيطرة عليها ومن ثم احتواؤها يجب أن تلحق وبشكل مباشر بسياسة التكافل الاجتماعي للحد من تداعيات هذه الجائحة الاجتماعية وليس الصحية فحسب، وهذا يشمل الحكومات التي يجب أن تبادر إلى تشكيل لجان تتبع وزارتها المعنية لإنشاء منظومة تكافل اجتماعي تشمل جميع الشرائح الأكثر عرضة لتداعيات فيروس كورونا الاجتماعية، وإلا فإن المقابل سيكون الأسوأ على شكل ثورة جياع تهدد الاستقرار والسلم في هذه الدولة أو تلك، وإذا كان دور الحكومات لا غنى عنه، فإن مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية ونشطاء الخدمة المجتمعية لا بدَّ أن يشكلوا غرفة عمليات مشتركة من أجل وضع خطة شاملة وتنسيق الجهود للإسهام في تقليل الآثار السلبية للجائحة والحد من انتشار الفقر.