هل يواصل المسيحيون العرب هجرة أوطانهم؟
الفرد عصفور
14-07-2020 01:27 PM
كان واقع الشرق الأوسط غنيا بتنوعه الثقافي والديني والاجتماعي لكنه في السنوات العشر الأخيرة بدأ يفقد بهجرة المسيحيين الكثير من سماته الأصيلة فهل يمكن للمسيحية في المشرق أن تصمد في الوقت الذي يشكك فيه الإعلام الغربي في مستقبل الوجود المسيحي وكأنه لن يبقى مسيحيون في المشرق خلال العشر سنوات القادمة.
لكن الأب خليل جعار راعي أبرشية ماركا في عمان لا يشكك أبدا في بقاء المسيحية ومستقبلها في الشرق الأوسط. ويقول إن المسيحية صمدت في المنطقة طوال الفي سنة وستظل باقية وصامدة برغم ما يعكر صمودها أحيانا من ظروف طارئة وحروب وأحداث ولكن كل هذه عوامل تقوية وليست عوامل إضعاف.
لم يعمل المجتمع الدولي على حماية المسيحيين أو يمنع تهجيرهم. حتى الجامعة العربية تتحمل جزءً من المسؤولية بإهمال الأمر والسكوت على ما جرى للمسيحيين من اضطهاد وقتل وتشريد سواء في العراق أو سوريا. فالإبادة الجماعية التي قامت بها داعش بحق المسيحيين في العراق لم يلتفت إليها أحد بل ربما تم استخدام ذلك لتخويف المسيحيين وتشجيعهم على المزيد من الهجرة. ويعزو البعض هجرة الأعداد الكبيرة منهم إلى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا للتسهيلات الغربية الكبيرة التي أعطيت لهم.
لكن الأب جعار وهو أيضا رئيس جمعية رسل السلام التي تعنى بأحوال المسيحيين العراقيين في الأردن برى أن الوقائع لا تدعم تلك الفكرة فهو لا يرى وجودا لاي تسهيلات غربية لهجرة المسيحيين العراقيين بل على العكس هناك المزيد من التعقيدات في رأيه. ويستدل الأب جعار على ذلك بأن الكثير من العائلات العراقية تنتظر منذ سبع سنوات تقريبا للحصول على تأشيرة هجرة لكن بدون جدوى. بل أن بعض السفارات تحاول الضغط لأجل إعادتهم إلى العراق.
المسيحيون في المشرق يتناقصون ببطء ولكن باستمرار وهم ينظرون إلى هذا الواقع بقلق عظيم فيجدون أنفسهم مجبرين على الهجرة. تتوقع الدراسات أن عدد المسيحيين في كل أنحاء الشرق الأوسط بما فيها مصر لن يزيد عن ستة ملايين في العام 2025 وهذا رقم مرعب.
التناقص الشديد في أعداد المسيحيين في الشرق ليس وليد يوم وليلة بل هو نتيجة ضغوط متراكمة ومتواصلة عمرها يزيد على مئة سنة. وتقلص أعداد المسيحيين في الشرق الأوسط يدق ناقوس الخطر على مستقبله. فالشرق الأوسط بدون المسيحيين أو بعدد ضئيل منهم ليس الشرق الأوسط.
الهجرة الواسعة للمسيحيين من المشرق تشكل أحد المخاطر الكبرى لأنها ستفقد المنطقة الدور الثقافي الذي يلعبه المسيحيون العرب بوصفهم حلقة الوصل بين الحضارتين العربية والغربية. فقد كان المسيحيون العرب من رواد النهضة العربية الحديثة وكانوا جزءً لا يتجزأ من الحياة الثقافية والاقتصادية والعلمية لمختلف حضارات المنطقة.
فتح الاحتلال الأميركي للعراق والفلتان الأمني الذي ساد بعد ذلك الباب للإرهاب وتنظيمي القاعدة وداعش فكان المسيحيون هم الهدف الأسهل لهذه الجماعات فتعرضوا لاعتداءات مدبرة وكثيفة عليهم وعلى كنائسهم دفعت بهم إلى الهجرة.
بسيطرتها على منطقة التواجد المسيحي الكثيف في العراق وهي منطقة سهل نينوى وجدت داعش صيدا ثمينا. قالت لهم داعش هذه الأرض ليست لكم فإما الإسلام وإما السيف. ولما رأى الإرهابيون صلابة الإيمان الذي يتمتع به المسيحيون العراقيون فرضوا عليهم النزوح عن أرضهم وترك ممتلكاتهم فتم إفراغ بلدات وقرى سهل نينوى من السكان وطمست داعش المعالم المسيحية في المنطقة.
بعد انحسار خطر داعش نسبيا وقيام القوات العراقية الحكومية بدحر الإرهاب في سهل نينوى توقع كثيرون أن يعود المسيحيون العراقيون إلى ديارهم لكن هذا لم يحدث. حاول البعض أن يعود فلم يجد شيئا يعود إليه. ومن كان يمتلك بيتا أو عقارا وجد ذلك منهوبا ومسجلا بأسماء غيره.
يقول الأب خليل جعار نقلا عن العراقيين الذين يتواصل معهم ويقدم خدمات التعليم والرعاية لأبنائهم أن الأوضاع في العراق لا تسمح لهم بالعيش هناك بكرامة وأمان كما أن حكومة العراق لا تلتفت إلى الاهتمام بعودتهم أو بإعادة تأهيلهم في ديارهم. ولا توجد أي محاولات عراقية رسمية لتعويض المسيحيين العراقيين الذين فقدوا ممتلكاتهم وقد يأسوا من ذلك ولم يعد المسيحيون العراقيون يفكرون بأي تعويض وكل ما يريدونه الآن هو أن يعيشوا بأمان ويمارسون إيمانهم بحرية.
انخفض عد المسيحيين في العراق من مليون ونصف المليون عام 1987 إلى حوالي ثلاثمئة ألف فقط، وقتل ألف ومئتا مسيحي منهم سبعمئة قتلوا على الهوية. وتم الاستيلاء على 23 ألف عقار وتفجير 58 كنيسة.
ما أصاب المسيحيين في العراق انتقلت عدواه إلى سوريا. قتل حوالي 3300 مسيحي على يد عصابات داعش. لم يبق في سوريا سوى مليون ومئتي ألف مسيحي بعد أن كانوا مليونين وأكثر.
واقع الأقلية العددية يدفع المسيحيين للهجرة. هناك خوف وقلق وتساؤلات كثيرة بالنسبة للمستقبل. والهجرة إن حلت مشكلة الأفراد فإنها تعمق مشكلة الجماعة. وقد كان غياب الأمن والاستقرار وصعود التطرف والإرهاب عوامل دفعت المسيحيين إلى الهجرة حتى من قبل الربيع العربي. فالدور المسيحي كان مهمشا واشتراكهم في الحياة العامة محدود جدا وكانوا على الدوام معرضين لضغوط تتعلق بحريتهم الدينية.
أما في الأراضي الفلسطينية وان لم تقع أي تصفيات دموية للمسيحيين فانه لم يعد يوجد منهم أكثر من خمسين ألفا وفي القدس تناقص عددهم ليصبحوا في حدود ثلاثة آلاف فقط. وقد شهدت فترة الاحتلال الإسرائيلي تزايد الهجرة من فلسطين بسبب الإجراءات الاحتلالية والقمع الذي يطال الجميع في فلسطين. ولان الدول الغربية المؤيدة لدولة الاحتلال لها أجنداتها الخفية تجاه المنطقة وقد ترى أن الصراع العربي الإسرائيلي قد يتحول إلى صراع ديني فإنها تريد إفراغ الشرق الأوسط من المسيحيين حتى لا تتحمل مسؤولية زجهم في صراع ديني إسلامي يهودي. وقد يبدو هذا الهدف بريئا لكن أبعاده وتداعياته مدمرة على المسيحيين أولا وعلى المنطقة بشكل عام. وإذ تقدم السفارات الغربية الكثير من الإغراءات للهجرة لكن المهاجرين لا يجدون الجنة الموعودة في بلاد الغرب فتكون خسارتهم مزدوجة.
الوجود المسيحي في المشرق ليس حديثا أو عرضيا وإنما تاريخي. فالمسيحيون العرب جزء لا يتجزأ من الشرق الأوسط وقد أقاموا فيه على مر العصور وهم يتكيفون مع الثقافة المحلية وباقي مقتضيات الحياة. وبعد أن كانوا مشاركين بفاعلية في بناء بلدانهم وأوطانهم وتشكيل هويتها الحضارية يجد كثير من المسيحيين أنفسهم أمام اختيار صعب لإيجاد واحات سلام يعيشون فيها بأمن وكرامة وحرية ويحققون أحلامهم ويعيشون إيمانهم بعيدا عن القيود والضغوط.