لا يجد الناس في الولايات المتحدة أي ترف لمسجد تاريخي عظيم يمكن الإِشارة له على أنه معَلم ديني تاريخي يرتاده المسلمون أو الزائرون الباحثون عن عبق التاريخ، أكبر من المركز الإسلامي في واشنطن العاصمة الذي بني عام 1957 والذي يعدّ أكبر مسجد في نصف الكرة الأرضية الغربي، والحال في الدول اللاتينية مؤسف، وفي أوروبا الأقرب للعالم العربي فقد أهملت البناء المعماري للمساجد التاريخية، بل إن في العاصمة بودابست تحولت مساجد الى شبه مواخير وحمامات عامة، فيما في عالمنا العربي كبلاد الشام لا نزال نفخر بالبناء العظيم لكنائس لا تزال تشهد على فجر تاريخ المسيحية الأولى وتحمل فسيفساؤها بآثار لا تقدر بثمن.
من هنا ندخل على الاعتراض الذي تجاوز آراء الناس العاديين أو أصحاب الأفكار والمعتقدات حسب ما يرونه تجاه إعادة المبنى الشهير «آيا صوفيا» في اسطنبول إلى مسجد للتعبدّ، إضافة لبقائه معلما سياحيا يرتاده جميع معتنقي الديانات وغير الدينيين حتى، فالاعتراضات اختلطت بشكل رسمي ما بين الديني والسياسي خصوصا من الخارجية الأميركية والاتحاد الأوروبي حيث دعيا تركيا لعدم إعادة المتحف الكبير لمسجد، فيما عبرت اليونان بوقاحة أن إعادة المبنى كمسجد هو استفزاز صريح للعالم المتحضر، فإين كان العالم المتحضر عندما قتلت المليشيات الصربية ثمانية آلاف بوسني تحت عين وسمع العالم المتحضر مثل هذا اليوم عام 1995
لنتحدث عن القدس العربية، والمسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة، فهل يرى العالم المتحضر والحريص على الثروة التاريخية أن أهمية تلك المعالم التي شهدت مهد الحضارة والأديان هي أهم من مبنى آيا صوفيا، لشعب سُلبت بلاده قطعة قطعة منذ وطأ العسكر الإنجليز أرض فلسطين، وأن المسجد الأقصى اليوم يطير في الهواء فوق حفريات لا تتوقف منذ سنوات طوال، حيث يعبث الإسرائيليون لتقويضه، مدعين بالبحث عن هيكل سليمان غير الموجود إلا في عقليتهم الاستعمارية الفكرية، ثم لا يخرج أي تصريح أو اعتراض غربي يندد بالحفريات الهدّامة هناك أو تغيير في معالمها التاريخية؟
لا شك أن الاعتراضات تستهدف سياسة الرئيس التركي رجب أردوغان، وهي تربطه بالمتغيرات الأخيرة التي يقود بها تركيا ليقدم بلاده على أنها إرث الخليفة محمد الفاتح، وهذا الأخير هو من إشترى تلك الكنيسة من الرهبان الأرثوذوكس بماله الخاص حين كان المبنى متصدعا، وأوقفه كأول مسجد في القسطنطينية ليصلي المسلمون فيه، حيث لم يوجد أي مسجد آنذاك لتقام تحت حكم «جيستيان الأول»، وأبقى على كل المعالم التاريخية فيه وحافظ على القيمة الفنية وزادها بمآذن لا تزال شامخة طيلة 480 عاما.
القرار كان قضائيا بدعوى أقيمت منذ سنوات، فآيا صوفيا أو «صرح الحكمة المقدسة وهي كاتدرائية أقيمت على أنقاض كنيسة أقدم، وبعد شرائها بقيت مسجدا ومعلما جميلا حافظا للمسات الحضارة البيزنطية والمعمارية الإسلامية طوال 581 عاما، حتى حكم الأتراك الجدد فحوله أتاتورك الى متحف ديني، لأن أتاتورك علماني، واليوم لا يلغي إعادته مسجداً لصفته كمَعلم تاريخي يشع بالحضارة الأوروبية والإسلامية معا أمام جميع زواره، فالقضية يجب أن لا تكون صراع حضارات على خلفية سياسية، وإلا فليقف العالم المعترض معنا لإعادة ما سرقه الإسرائيليون من أرضنا بدعم غربي كامل، «فآيا صوفيا» لم يهدم، ولكن الحضارة الغربية هي من تهدمت أخلاقياتها.
الرأي