ذات مساءٍ كانونيٍّ طاعنٍ في البُرودةِ وَصَلتُ إلى مُجَمَّعِ الجنوبِ بقصدِ العودةِ إلى الكرك، كان الوقتُ متأخرًا حتى أنَّني و طيلةَ الطريقِ المُؤدي من الجاردنز إلى المُجمَّع كنتُ أتداولُ مع نفسي خياراتِ المَبيتِ بينَ قريبٍ وحبيبٍ وصديقٍ في افتراضٍ مُبَكِّرٍ لعدمِ توفُرِ وسيلةَ نقلٍ عندَ التاسعةِ ليلًا، وهذا جِدًّا مُمكن.
هذه المُعطياتُ زمنيًّا ومناخيًّا تمنحُ المُجَمَّعَ كما اعتدنا _نحنُ مُرتادو الخطَّ لقضاءِ بعضِ الأعمالِ وإثر سرعةِ الحنينِ وبِحُكمِ الفقرِ أيضًا_ رهبةً وكآبةً، ووسط هذا كلِّه يبقى يقينُنا بأنَّ ما بعدَ ذلك الليلِ جنوبنا الحبيب منارةً للجمالِ، نحنُ الذينَ كنَّا وسنبقى للأبدِ نُمارِسُ إصرارَنا بأنَّ ليلةً إضافيةً في أحضانِ الألَقِ أفضلُ من انتظارِ بُزوغِ الفجرِ مع أنَّ مسيرَ الصَّباحِ أسلَم!
لم يَكُن في الباصِ حتى نصفَ الحُمولةِ، ولكنّني على ما يبدو وَصَلتُ مع وُصولِ السائقِ إلى الضَّجرِ الكافي لاتخاذِ قرارِ المسيرِ وعدمِ انتظارِ المزيدِ من المُغادرين، لا بأس فقد دفعنا أجرةً أكبر متناثرينَ على المقاعدِ، أحدُ الرُّكابِ نامَ على الفورِ، آخرٌ جلسَ خلفَ السائقِ وكأنَّهُ مُكلَّفٌ بمهمةِ تسليتهِ خشيةَ أن يغفو، ذاكَ أسمرٌ أنيقٌ قرأتُ في عينيهِ شوقًا لأطفالِهِ وثبتَتْ قراءتِي حينَ هاتفَ زوجتهُ قائلًا محذرًا (لا يناموا العيال)، أربعينيٌّ مُتعَبٌ جَلَسَ في المقعدِ الخلفيِّ مُتَكئًا على حقيبةٍ فيها على ما يبدو أوجاعُ سنينٍ وأحلامٌ لن تتحقق، وأنا كما عادتي جلستُ على المقعدِ الأولِّ يمينًا خلفَ البابِ لأتمكنَ من مُمارسةِ طُقوسي الفكريَّةِ التأمُليَّةِ غير المنطقيَّةِ في أغلبِها!
مضى بنا الباصُ ومضينا نحنُ بين نائمٍ ومُتأملٍ وعاشقٍ وحالمٍ ومُشتاقٍ، وأنا أيضًا حينها رتبتُ أولوياتِي وبدأتُ الخوضَ في مشاريعَ تتمُ دراستُها فقط عبر الصحراوي وتتلاشى باقتراب الوُصول. فوحشةُ الطريقِ والبردُ القارسُ يفتحانِ أمامكَ مُخَيِّلةً لا تتناسبُ مع أرضِ الواقعِ دونَ أنْ تتوقفَ هذه المُخَيِّلةُ عن خوضِ ذاتِ الفكرِ في رحلةٍ أُخرى، أمَّا مطربُ الرحلةِ فهو محمد عبده كانَ يشدو في وصفٍ للمُعاناةِ (أعاني الساعة وأعاني مسافات وأعاني رياح الزمان العتية، وأصور معاناتي حروف وأبيات يلقى بها راعي الولع جاذبية، ولاني بندمان على كل ما فات أخذت من حلو الزمان ورديه، هذي حياتي عشتها كيف ما جات آخذ من أيامي وأرد العطية) وفي اللحظةِ التي وصلتُ فيها لروحانياتِ حيرةِ عشقِ الجنوبيِّ حين يترددُ في تقسيمِ هواهُ بين مسقطِ رأسِهِ وبينَ عمّان وضجيجِها الفاتنِ. أنهى أبو نورة الجدلَ قائلًا (اختلفنا مين يحب الثاني أكثر واتفقنا إنك أكثر وأنا أكثر) يشدو ونسرح إلى أن وصلنا منازلَنا مع انتصافِ الليلِ وانتصافِ طموحٍ كُتِبَ لنا عدمُ اكتمالِهِ!