كنت قد طرحت في مقال سابق "صمود القاعدة: كلمة السرّ" مقاربة بين القاعدة والشيوعية، باعتبارهما تعبيراً عن "لحظة تاريخية" معيّنة، تتجلّى فيها أزمة حضارية معيّنة، رافضاً تسطيح التعامل مع القاعدة باعتبارها "ظاهرة أمنية" فحسب، وإنّما هي منتج اجتماعي (ثقافي)- سياسي يتأسس على جملة من الشروط الموضوعية الصلبة.
أمس تعرّض الزميل سامي الزبيدي لتلك المقاربة بالنقد، وهو تعليق أحترمه وأشكره عليه، بعيداً عن أسلوبه الحاد في النقد، وجوهر انتقاد الزميل الزبيدي أنّ الشيوعية لا تمثِّل أزمةً للرأسمالية بقدر ما تمثل حالة نقدية داخلية للحضارة الغربية وللمقولات الرأسمالية باتجاه أنسنتها، بينما القاعدة تمثل أزمة داخل الحضارة الإسلامية، ناجمة عن التأويلات المتطرفة.
مداخلة الزميل مهمة جدّاً لتوضيح جوهر المقاربة التي اعتمدتها بين الشيوعية والقاعدة، وفرصة لولوج أكثر عمقاً للموضوع، وتحديداً ما يعنينا فيه، عربياً وإسلامياً، من فهم القاعدة وحيثيات الصعود والانتشار ونقدها.
في البداية، استخدام عبارة "أنّ الشيوعية تمثل أزمة الرأسمالية العالمية" يعود للمفكر الجزائري العملاق مالك بن نبي، وليس المقصود، بالضرورة، تسخيف الشيوعية أو الاستهانة بفلسفتها وحضورها السياسي والتاريخي، بل على العكس تماماً فإنّها تمثل جواباً تاريخياً فلسفياً، بعيداً عن تقييمه، لجوانب القصور والضعف في الرأسمالية، أو تعكس ثقافياً مصالح "الفئات الاجتماعية" المتضررة من الفلسفة الرأسمالية، سياسياً واقتصادياً.
هنا، تحديداً، زاوية الرؤية المقصودة، وليس الهدف المقارنة بين الشيوعية والقاعدة بأي حال من الأحوال، بعيداً عن التحيّزات الأيديولوجية للكاتب (هنالك من يؤمن بالشيوعية ومن يؤمن بالفكر القاعدي)، إنّما رصد اللحظة التاريخية لبروز الشيوعية في الحضارة الغربية.
وجه المقارنة أنّ القاعدة تتأسس لحظتها التاريخية على أزمة النظام الرسمي العربي وعدم قدرته على مواجهة التحديات الاستراتيجية العاصفة المحيطة به، داخلياً وخارجياً، فمثّلت القاعدة أحد تجليات الجواب على هذه الأزمة.
الهدف من هذه المقاربة (باختصار وتبسيط) أنّ القاعدة ليست وليدة الفراغ ولا هي ظاهرة أمنية مجرّدة، وإلاّ لانتهت مع المجهود الأمني، وحاضنتها الافتراضية هنا تتمثل بأزمة النظام الرسمي العربي، كما كانت الشيوعية وليدة أزمة الرأسمالية.
في الحالتين نحن أمام "حالة نقدية" تأسست على شروط واقعية (=أزمة تاريخية)، ومن حق كل كاتب وباحث أن ينحاز لأي منهما. أمّا التعامل مع القاعدة باعتبارها فقط "أزمة" الفكر الإسلامي، فهذا غير صحيح، إذ أنّ الفكر الإسلامي، كما هي الحال في الأفكار الأخرى تلبّس منذ بواكيره بنزعات ثوروية ومعتدلة ومتطرفة، لكن صعود أيٍّ منها وبروزه لا يأتي إلاّ في سياق تاريخي واقعي، وذبوله أيضاً له مقدماته وشروطه.
وفي كلتا الحالتين، فإنّ الشعور بالظلم والضعف يمثل جوهر الأزمة، في الرأسمالية ظلم الطبقات الفقيرة والعاملة وتجبّر أصحاب رأس المال، في الواقع العربي الإسلامي الحالي، الظلم بشقه الخارجي في الهيمنة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي مقابل عجز النظام العربي عن مواجهة ذلك، ولا يمكن أيضاً استبعاد الظلم الداخلي، وغياب الإصلاح السياسي والفشل التنموي من تعزيز الفكر المتطرف والمتشدد.
ومن الظلم (أيضاً) المسارعة بوصف المنشد الإسلامي أبو راتب بـ"الأصولي" وإدانته قبل القضاء الأميركي، وجريمته هناك "علاقة ما" مع حركة حماس، فهذه الجريمة لا تمت إلى معاييرنا هنا، والرجل فنان: نعم تعبوي، كما هي حال الشيخ إمام وغيره، وكلّ يعكس قيمه التي نفترض أنّ حريتها مصونة بالشرائع السماوية والأرضية.
الغد.