قبل 10 سنوات أصيب نصر حامد أبو زيد بفيروس غريب، لم يعرف له علاج، وتوفي بعد عودته من منفاه الهولندي بأسبوعين، ورحل مقهوراً، مظلوماً، في بلده وبين أهله. ولا يزال الرجل مغبوناً، وسيبقى كذلك، طالما أن أمته تتعلق بالخرافة، وتخشى العقل، ولا تعيد له اعتباراً، وتنكر عليه إخلاصه لبني قومه.
هو من سلالة ابن رشد وطه حسين، من بيئة متواضعة، ومساره كان محفوفاً بالصعاب، واليتم والأسى. لكنه على أي حال، مكافح، جدّي وصارم، بقدر ما هو رقيق ومتواضع. ميزة أبو زيد الذي لا يزايد عليه بالأكاديمية والبحث تتجاوز مكانته العلمية المرموقة - التي قدّرت خارج المنطقة العربية، أكثر بأشواط من داخلها - هي في إنسانيته أولاً، ورفعته الأخلاقية، وقبل كل شيء شجاعته التي باتت عملة نادرة.
شجاعان، بطلان، نستذكر وفاتهما الموجعة كل مطالع يوليو (تموز)، لأنهما لم يعوضا أبداً؛ غسان كنفاني صاحب الكلمة التي تحرق وتخرق الوجدان والضمائر بأسرع وأمضى من رصاصة، ونصر حامد أبو زيد الذي قال كلمته الحرة، في وقت كان فيه التشدد الديني في ذروته، وهو يعرف ذلك، وأصرّ على أنْ لا مخرج من عنق الزجاجة، من دون تحرير الدين من سطوة التاريخ، وبطشه. كلاهما اعتنق الحرية مذهباً، كنفاني برفضه الشرس للاستعمار والذل والمهانة الوطنية، وأبو زيد بتحطيمه أصفاد الفكر، وتكسيره أغلال العقل. كان يرى في وقف تدفق الأسئلة في رأسه «شهادة على موته». ولم يكن راغباً في حياة بلا معنى. هو عاشق المعنى وله وهب عمره، وشغفه وكل تضحياته الثمينة التي أفضت إلى تكفيره، وتفريقه عن زوجته.
نحن اليوم في أمس الحاجة إلى نصر حامد أبو زيد، إلى الرجل الذي قال إنه فخور بأن يكون «معلم صبية»، وأن ما يعنيه هو أن يعلم طلابه كيف يفكرون لا كيف يحفظون، وكيف يتجاوزونه ويقارعونه، ويتغلبون عليه، وإلا سيتلبسه إحساس بفشل فادح.
نحن في أمس الحاجة لأمثال أبو زيد الذي حفظ القرآن صغيراً، وقرأ التراث بتمعن، وعاد إلى العصر الجاهلي ليفهم النص القرآني في سياقه الاجتماعي وبيئته، ثم تفقه في علوم اللغة الحديثة، ولم يهمل الأنثروبولوجيا، والسوسيولوجيا ولا علم الدلالة، وامتلك بين ما امتلك مفاتيح النقد الحديث. اجتمعت للرجل معرفة بخط الزمن التاريخي على امتداده، فربط بين أمراض الحاضر، وجذورها الضاربة في الماضي العتيق.
هذه المعرفة الشاملة لرجل تميز بوضوح الرؤية، ورجاحة الفكر، وموضوعية النظرة، هي كنز. قد لا يكون الأمر كذلك لدى أمم أخرى، لها من المتنورين المفكرين المتفلسفين، ما يسمح لها بالتضحية بأحدهم أو مجموعة منهم. أما نحن فمناهجنا لا تؤهلنا لتخريج كثيرين، بمقدورهم سبر الحلول بمثل هذا الوضوح، وبمهارة تسمح لهم بالسير جيئة وذهاباً على خط الأحداث. فهو شبيه بنهضويين كبار كمحمد عبده وجمال الأفغاني، مع حداثة ناضجة ومتصالحة مع ذاتها.
لا يكتب مادة نظرية جامدة، فهو مرتبط بعصره. لم يتخصص في النص القرآني، لمتعة التخصص، بقدر ما كان هاجسه فهم مجتمعه. وهو على دراية أن ذلك محال، من دون إدراك مكامن أسرار علاقة شعبه بالنص المقدس، راهناً، وماضياً. واهتمامه العميق باللغة، جاء من يقينه أن هذه العلاقة بين النص القرآني، والمسلمين المؤمنين، هي علاقة لغوية. وبالتالي، الفهم اللغوي للنص هو الذي يحدد طريقة استقبالنا له، وتعاملنا معه، ومن هنا جاء شغفه بالتأويل.
من التواضع بحيث رفض أن يصف نفسه بأنه صاحب مشروع، مع أنه كذلك. من الموضوعية، بحيث يعترف بأنه هو أيضاً كان محدوداً في نظرته إلى بعض القضايا، سجيناً للتقليد. صار عالماً بالتأكيد، ومع ذلك بقي يقول إنه عاجز عن تقديم طبق كامل التحضير لقارئه، لأنه لا يزال في طور الطبخ والتحضير، ولم تجهز الوجبة الشهية التي يريد أن يزودنا بها بعد.
المفكرون الفلاسفة، أمثال نصر حامد أبو زيد لا يكتبون لعامة الناس. فهذه كتابات غير شعبية، وتحتاج وسطاء ومفسرين، ومترجمين لها من مستواها النظري إلى الحياة العملية. وهذه الصلة انقطعت. قطعها من هاجموا أبو زيد حين كتب مقدمة مؤلفه «كتاب نقد الخطاب الديني» لينال رتبة الأستاذية، وزيادة بسيطة على الراتب. كما أي أستاذ «على قد الحال». كانت فرصتهم للانقضاض عليه، للتخلص منه، ولفترة قد تطول، على ما يبدو.
لم يدعِ الرجل في أي لحظة أنه امتلك الحقيقة، كما فعل أعداؤه، الذين بذلوا ما في وسعهم لإلغائه. كل ما طمح إليه، أن يفسحوا له مكاناً، أن يكون لأمثاله من العقلانيين وجود. وهو الذي اعترف دائماً أن «اليقين يقع بين شكين؛ شك يؤدي إلى يقين، ويقين لا بد من الشك فيه».
ليس بالضرورة أن تكون من أتباع فكر أبو زيد كي تدافع عنه. بل لا بد أن تدافع عنه لأنه يطالب لكل مختلف بحق الوجود والقول، من دون اضطهاد وأذى. رجل تعمق في فكر المعتزلة، والأشاعرة، درس الفلاسفة والمتصوفة، وانضم لفترة قصيرة إلى «الإخوان المسلمين»، فعرفهم عن كثب. ثم رأى أننا بأمس الحاجة إلى إعادة تأويل النص. إلى فهم سياقاته من خلال حياتنا الراهنة، جل ما أراده أن يتاح لنا من الحرية ما أتيح لعلماء في القرن الثالث والرابع الهجري، لا أن يؤله هؤلاء، ويحنطوا وتسبغ على تأويلاتهم واجتهاداتهم قداسة لم يدعوها هم أنفسهم.
سيزداد نصر حامد أبو زيد، بمرور الوقت أهمية، وسيزداد جوهر كتاباته بريقاً، كلما غرقنا أكثر في جحور الظلام، ومتاهات الأساطير والهلوسة، ونهشنا التخلف. نحن في حاجة إلى مائة نصر حامد أبو زيد ليزلزلوا هذا الجمود والجبروت.
الشرق الاوسط