نحو بناء سيناريوهات إقتصادية لمرحلة التعافي وما بعدها (2-2)
د. محمد أبو حمور
06-07-2020 04:21 PM
يكتسب الاجتماع المطول للحكومة الذي عقد بداية هذا الاسبوع أهمية خاصة كونه سيراجع ويحدث الاولويات للفترة المتبقية من هذا العام وللعام القادم أيضاً، بما في ذلك الخطط والبرامج والمشاريع في ظل المستجدات التي فرضتها أزمة كورونا والمحددات المالية والاقتصادية المستجدة.
ونأمل أن يتمخض عن ذلك اجراءات وبرامج تستطيع أن تلبي الطموحات وأن تتواكب مع الظروف الراهنة بما يؤدي لخدمة الاقتصاد الوطني وتلبية احتياجاته والتأثير ايجاباً على حياة المواطنين، ولكن تحقيق هذه الغاية يستوجب تواصلاً فعالاً مع مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية لتشارك في تحديد الاولويات ولتطرح وجهة نظرها حول افضل السبل لعبور هذه المرحلة والاستعداد لما يحمله المستقبل من تطورات، وبما يضمن أن تشكل الخطوات والاجراءات التي سيتم القيام بها انياً قاعدة لانطلاقة مستقبلية نحو نمو متوازن ومولد لفرص العمل.
ويشير الاقتصادي المعروف محمد العريان في أحدى مقالاته الى أن " المؤسسات الاقتصادية الدولية الرائدة في العالم تحذر من أن الاقتصاد العالمي قد يستغرق عامين على الأقل قبل أن يستعيد ما خسره بسبب الجائحة وإذا واجهت الاقتصادات الرئيسية موجات إضافية من العدوى، فقد يستغرق التعافي فترة أطول" ويؤكد "أن السياسات جيدة التوقيت والتصميم والداعمة للنمو من الممكن أن تعمل على تسريع هذا الجدول الزمني، في حين تجعل التعافي أوسع نطاقا وأكثر استدامة.
وهذا لا يعني المزيد من الغوث في الأمد القريب وحسب، بل يعني أيضا قدرا أكبر من التركيز على التدابير التي تتطلع إلى المستقبل والتي تستهدف تعزيز الإنتاجية، والحد من انعدام الأمان الاقتصادي بين الأسر، وتحقيق انسجام أفضل بين دوافع النمو المحلية والدولية، والتصدي للانفصال متزايد الخطورة بين النظام المالي والاقتصاد الحقيقي".
لا أحد يستطيع الانكار أنه وفي ظل استمرار الازمة الحالية يصعب التنبؤ الدقيق بما قد يترتب عليها من نتائج، الا انه ومع انتهاء هذه الازمة فمن المؤكد سيكون هناك تحديات عدة واثار متراكمة، لذلك لا بد من بدء العمل منذ الان لوضع خطة مدروسة وبمشاركة مختلف مكونات الدولة لتمكين القطاعات الاقتصادية المختلفة من التعامل مع مخلفات الازمة بشكل مناسب وبما يتيح تقليص فترة التعافي والقدرة على التعامل مع الظروف المستجدة بكفاءة.
ومن المهم أن لا يشكل الانخراط في ادارة الازمة وتحدياتها الحالية عائقاً عن البحث والاستعداد لمواجهة النتائج والاثار المستقبلية باعتبار ان هذا يشكل مقدمة لتشخيص الفرص والتحديات المستقبلية ووسيلة لضمان أن الاجراءات والقرارات التي تتخذ في المرحلة الراهنة تشكل أساساً وقاعدة للسير قدماً في بناء المستقبل، ناهيك عن ضرورة اعتبار ما نمر به من ظروف مستجدة فرصة لمراجعة الخطط والاولويات وصولاً الى بناء اقتصاد مزدهر ومستدام.
بناء وأعداد السيناريوهات المستقبلية يعتبر ضرورة ملحة خاصة عندما تبرز في الافق تحديات سياسية أو اقتصادية او اجتماعية ، وهي ليست مهمة شخص أو جهة واحدة بل واجب تقوم به مؤسسات متخصصة وبمشاركة واسعة من جهات متعددة والحكومة هي أولى الجهات التي يفترض ان تهتم بهذا الامر باعتبار انها الجهة التي تقوم بادارة موارد الدولة وتحدد السياسات والاجراءات التي تؤثر على مختلف فئات المجتمع ، والاستعداد للمستقبل يتيح وضع حلول للمصاعب المستقبلية بكلفة أقل وبشكل متدرج دون الاضطرار للتعامل مع المفاجات والتطورات غير المحسوبة، كما أنه يساعد في اتخاذ القرارات الملائمة بتوقيت مناسب وبما يتناسب مع التحديات ما يعني النهوض بكفاءة المؤسسات ورفع مستوى فعاليتها وقدرتها على الاستجابة وتحقيق اهدافها باقل كلفة. ومن يخطط للمستقبل ويراعي ما قد يستجد من ظروف ومحددات يستطيع أن يرصد المعوقات والمصاعب المحتمل مواجهتها مستقبلاً وبالتالي بناء القدرات التي تمكن من تجاوزها والتغلب عليها.
وعندما نتحدث عن الاستعداد للمستقبل فنحن لا نعني ان هناك واقعاً مفروضاً بل ما يجب ان نقوم بتنفيذه وبنائه وفق المعطيات المتاحة، اي ان نكون جهة فاعلة لها دور في التغيير المرغوب الذي يحقق المصلحة العامة للدولة ومواطنيها وفقاً لما هو متاح من امكانيات وبما يتناسب مع الوقائع والظروف والقدرة على تحسينها، وبعكس ذلك نكون قد تركنا المستقبل رهناً لظروف عشوائية وقرارات ارتجالية تفاقم الازمات بدلا من العمل على حلها ومواجهتها.
عادة ما يقال بان المستقبل مهم ولكن الواقع الحالي أهم وهذا صحيح من حيث المبدأ ولا ينفي أهمية التفكير بالخيارات المستقبلية والاستعداد لها، فما يتم اتباعه من سياسات و اتخاذه من قرارات واجراءات في الوقت الراهن سيؤثر بشكل او باخر على المستقبل لذلك لا بد من الالتفات لما يترتب على ذلك من نتائج وتداعيات مستقبلية ، ومن هنا تبرز أهمية الاستعداد لمرحلة التعافي وما بعدها عبر اعداد السيناريوهات الملائمة حيث ان ذلك يتيح معرفة ما قد نواجه من مشاكل في المرحلة القادمة وبالتالي ليس الاستعداد لها فحسب وانما ايضاً العمل قدر المستطاع على تجنبها، وخلال ذلك نستطيع أن نستخدم ما نمتلكه من امكانيات وموارد بشكل موضوعي ومنطقي وان نقيم قدراتنا على الفعل والتأثير عبر الخيارات المتاحة ضمن امكانياتنا والمفاضلة بينها وبحيث نعيد حساباتنا في كل مرحلة من المراحل ونبني على مواطن قوتنا ونبرز تميزنا الذي يعد سبيلاً لبناء مستقبل أفضل.
تشير التوقعات والدراسات المختلفة الى اننا خلال مرحلة التعافي وما بعدها سنكون مضطرين للتعامل مع تحديات مختلفة على المستوى العالمي والاقليمي والمحلي وهي تحديات مترابطة بشكل أو باخر، فمثلاً يتوقع الكثيرون أن تتراجع فرص العولمة وأن يؤثر ذلك على التبادلات التجارية بين دول العالم المختلفة بحيث تتم العودة تدريجياً لفكرة الاعتماد على الذات وتحقيق الامن الغذائي وأمن الطاقة من خلال الاكتفاء الذاتي، وفي ذلك يقول جوزيف ستيغلتز ، أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا، والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد: "اعتاد الاقتصاديون السخرية من دعوات بلدانهم تبني سياسات الأمن الغذائي والطاقة، ويجادل هؤلاء الاقتصاديون بأنه في عالم العولمة لا توجد مشكلة مع الحدود، ويمكننا دائماً اللجوء إلى بلدان أخرى إذا حدث شح في شيء ما في بلدنا. الآن، أصبحت الحدود مهمة، حيث أغلقت البلدان حدودها فجأة وبقسوة، وتكافح من أجل الحصول على الإمدادات.
جاءت أزمة «كورونا» لتذكرنا بقوة أن الوحدة السياسية والاقتصادية الأساسية لاتزال تكمن داخل الدولة، ولكي نبني سلاسل توريد ذات فاعلية، بحثنا في جميع أنحاء العالم عن المنتج الأقل كُلفة، لكننا كنا قصيري النظر، لأننا ظللنا ننشئ نظاماً غير مرن بشكل واضح، ومتنوعاً بشكل غير كافٍ، وعرضة للانقطاعات، ونرى الآن النظام محطماً أمام أعيننا بسبب هذا الاضطراب غير المتوقع ينبغي أن يكون النظام الاقتصادي الذي سننشئه بعد هذا الوباء أكثر فعالية ومرونة وأكثر فهماً لحقيقة أن العولمة الاقتصادية تجاوزت العولمة السياسية بكثير.
لكل ذلك، سيتعين على البلدان أن تحقق توازناً أفضل بين الاستفادة من العولمة واعتمادها على الذات" ، ورغم ان احتمالية الانكفاء على الذات تبدو ضئيلة الا ان ذلك لا يعني عدم الاستعداد لهذا الامر وما قد يترتب عليه من نتائج مختلفة، خاصة وأن بعض القطاعات الواعدة مثل السياحة والنقل والتصدير وحوالات العاملين تتاثر بشكل مباشر بالظروف الخارجية، وفي هذا الاطار من المهم أن ندرك حقيقة التبدلات التي تشهدها دول الاقليم سواءً ما يتعلق بمصاعبها الاقتصادية نظراً لانخفاض اسعار النفط وكذلك سياسات توطين العمالة ، ناهيك عن عدم الاستقرار الذي تشهده دول اخرى في الاقليم.
كما برزت ايضاً التحديات المتعلقة بدور الدولة في التصدي للأزمات واثبتت الدول ذات المؤسسات الراسخة والقادرة على اتخاذ القرارات في الوقت الملائم انها الاقدر على مواجهة المصاعب خاصة اذا كان المواطنون متعاونين وملتزمين، ومن الواضح أن قادم الايام تحمل في طياتها تحديات تتعلق بالتناغم المطلوب بين السياستين المالية والنقدية ودور كل منهما في تحقيق التعافي المنشود والنمو المستدام مستقبلاً، هذا بالاضافة الى دور سياسة الانفاق العام وكيفية تحديد الاولويات التي تتناسب مع التحديات المختلفة، فقد أصبح جلياً أن الانفاق على بعض القطاعات يجب أن يولى أهمية خاصة مع مراعاة الكفاءة والفاعلية بما في ذلك قطاع الحماية الاجتماعية والقطاع الصحي، والبنية التحتية لقطاع الاقتصاد الرقمي، ويجب ان لا يكون فهمنا لدور الدولة في الاقتصاد مرتبطاً بالحجم بل بالكفاءة والفاعلية التي تضمن توفر البيئة الملائمة لعمل القطاع الخاص وتتيح له القيام بدوره في تعزيز الاستثمار وتوليد فرص العمل.
وقد ثبت ايضاً ان السياسات الاقتصادية لا بد ان تولي عناية خاصة بقطاعات الاقتصاد الحقيقي وخاصة القطاعات الانتاجية مثل الصناعة والزراعة والتي شكلت ملاذاً ووسيلة لتأمين الاحتياجات الاساسية في أوقات الازمات، خاصة وأن هذه القطاعات تساهم بشكل فاعل في توليد فرص العمل وهي أحدى التحديات التي برزت مؤخراً ومن المتوقع أن تستمر في المستقبل، لذلك فنحن بحاجة لاعادة النظر في ديناميكيات سوق العمل بما في ذلك القطاع غير الرسمي، مع الاهتمام بما ستفرضه التطورات التكنولوجية من تحديات على العاملين وما قد تولده من فرص مستقبلية، ولا بد ان يكون القطاع الخاص قادراً على التعامل مع التحديات الحالية والمستقبلية ، فالاستعداد للمستقبل لا يقتصر على القطاع العام فقط بل ان القطاع الخاص قد يكون أحوج الى التأقلم مع المستجدات والاستعداد لمواجهتها.
الاقتصادات القوية هي الاقدر على مواجهة الازمات والتعامل مع تداعياتها بكفاءة وفاعلية وذلك قابل للتحقيق ان اتبعنا سياسات تساهم في رفع مستوى الانتاجية وزيادة القدرة التنافسية للمنتجات الاردنية عبر رفع جودتها وتخفيض كلفتها وتشجيع استخدام التكنولوجيا الحديثة واتاحة المجال لها لولوج أسواق جديدة وكل ذلك من خلال تحسين بيئة العمل والارتقاء بمؤشرات سهولة الاعمال وخلق الظروف الملائمة لتحفيز الاستثمارات المحلية وجذب الاستثمارات الاجنبية مع التأكيد على أهمية توثيق التعاون مع الدول الصديقة والشقيقة، بالطبع فان الحديث عن هذه الجوانب أسهل من تطبيقها، ولكن هناك فرصة نستطيع ان نقتنصها عبر بناء شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص تعزز الثقة وتستجيب لتحديات المرحلة الراهنة ومتطلبات العمل المستقبلي وكيفية التأقلم معه، الجمود والاكتفاء بالمراقبة ليس خياراً بل لا بد من المبادرة والاستعداد للمستقبل منذ الان.
الرأي