اذهب الى وسط البلد. اجلس في مقهى. شرفته مرتفعة. انظر الى الناس من فوق. وهم يمشون في وسط البلد. لا ارى سوى شيب رؤوسهم. ولا اقرأ تعبيرات وجوههم. احاكم نفسي على هذه الجلسة. واقرر ان انزل من الشرفة لامشي بين الناس.
نسبة الذين لم يحلقوا ذقونهم صباحا نسبة مرتفعة ، وقد سألت صحفيا بريطانيا ذات مرة في بغداد كيف يعرف معنويات الناس في اي بلد يزوره دون ان يوجه سؤالا لاي انسان في ذلك البلد. قال لي اعرف معنوياتهم من ثلاثة اشياء الاول من ملابسه واذا كانت مكوية بشكل جيد او لا ، والثانية من حلاقة الذقون وهل جرت ام لا. والثالثة من التدخين بشراهة خلال المشي ، بدلا من التدخين جلوسا. الصحفي البريطاني كان يقصد انك تقدر على قراءة احوال الناس ، دون ان تسأل احدا ، عبر فن قراءة الوجوه ، وهو فن سياسي واعلامي وامني في دول العالم.
ذاك الصباح.. صحوت عند الخامسة فجرا. وخرجت بسيارتي مرة ثانية الى وسط البلد ، طبعا المقاهي مغلقة ، ولم اذهب بحثا عن مقهى في هذا الوقت. بقيت امشي من سوق الذهب الى نهاية سقف السيل وعدت مشيا الى رغدان ، ومن هناك الى سوق الذهب الذي لا ينخفض سعره ، بل يرتفع يوما يعد يوم ، برغم تراجع قيمة كل شيء. الناس يمشون وقد اهمل نصفهم هندامه. فلا حلاقة ذقن ولا شعر اخذ حقه جيدا في التمشيط ، ولا عيون ارتوت من النوم ، ولا قميص يلبسه رجل اخذ حقه في الكوي. ملابس مجعلكة. كما يقولون وخروج على عجل الى العمل. وسيجارة تقتل الفيل في هذا الصباح على فم نصف من يمرون من وسط البلد ، كل صباح. مع هؤلاء تجد نسبة لا بأس بها تتحدث من نفسها. هل تلاحظون في عمان ان سائق السيارة يكون وحيدا ويكون في حوار انفعالي مع نفسه غضبا ، ويشوح بكلتا يديه ، في وسط البلد ربما تسمع من يتحدث ويقول "يا اخي طول روحك رح ادفعلك الايجار" وقد يشتد الحال بأخر فيركب سرفيسا غير السرفيس الذي يريده ، فيذهب الى اللويبدة بدلا من جبل عمان.
بائعة الدجاج والبيض البلدي تشتكي هي الاخرى تقول.. السوق خربان. حتى هي غاضبة. تشكو مثلها مثل تجارعمان الغربية ، ومثل طالب الجامعة. الكل يشكو. حالة التذمر نفسية. الشباب يعملون من اجل وظائف تحرق دمهم مقابل ثمن السجائر والساندويشات والمواصلات. لا احد يجد مالا ليتزوج. الكل يمضي يومه دون نتيجة عملية سوى اضاعة الوقت. في وسط البلد تقرأ الحالة المعنوية للناس. وتعرف ان هؤلاء لا يصدقون نشرات الاخبار ولا الصحف ولا الاحماءات الهستيرية في الكلام وما خلف الكلام. تشاهد مواطنا يشتري خمسة ارغفة من المخبز ، يقلب بيديه كل الارغفة والمعجنات والكعك قبل ان يشتري الخبز ، وكأنه يغازل القمح والدقيق. ما يلبث الا ان يغادر. وفي ذات الزاوية تجر سيدة طفلها بعنف حين يؤشر بيده على قطعة حلوى يريدها. فلا تشتري له. بل تدفعه الى الامام بكل غضب الدنيا ، وهي قد خرجت صباحا لسبب غريب برفقة طفل طري.
ومن يريد ان يعرف كيف يعيش الناس وكيف يقيمون الاشياء والقرارات والاتجاهات عليه ان يمضي صبيحة يوم مشيا في البلداو في وسط سوق عجلون او الكرك ، او في صبيحة يوم جمعة في مخيم البقعة. الحالة المعنوية للناس تؤشر على الكثير ، وعلى بعضنا ان يتنبه الى معنوياتهم المتعبة.
mtair@addustour. com. jo
الدستور