أبي .. ذكرى جندي في ذاكرة الوطن
نشأت الحلبي
16-02-2010 10:41 PM
قبل فترة إتصل بي أخي وأخبرني بأنه تقرر إطلاق إسم والدي المرحوم "سالم حمود الحلبي" على أحد شواع مدينة الرصيفة، هذه المدينة التي نشأت فيها وحالفني الحظ بأن أرى شيئا من "الحكايات" التي نقلها إلينا آباؤنا وأجدادنا، كانوا يحدثوننا عن بساتينها الخضراء التي تكاد تكون كما "الحلم" في ذهننا، وأخبرونا عن "السيل"، وهو نهر الزرقاء، عندما كانت مياهه عذبة وتعيش فيها الأسماك، وحدثونا أيضا عن لياليها الجميلة في المتنزهات التي كانت مترامية على أطراف بساتينها ويقصدها الكثير من الأردنيين ليقضوا فيها السهرات، وأتذكر هنا أننا كنا وكثير من الصبية في أحياء الرصيفة نسهر على أسطح منازلنا حتى نسمع أصوات المطربين الذين كانوا يأتون من بلدان عربية مختلفة لإحياء تلك السهرات، ولصغر سننا، فلم يكن يسمح لنا بالدخول وكنا نكتفي بالإستمتاع، بالإستماع من بعيد.
فور أن أخبرني أخي بالخبر، دار في ذهني شريط الذكريات مع الأب الحنون الذي غيبه الموت المفاجئ من بيننا بعد أن هاجمه السرطان على حين غرة وهو في نهاية العقد الخامس من العمر، سنة من العذاب عشناها بعد أن علمنا بأن المرض "الملعون" قد هاجم جسد ذاك الإنسان الطيب، ولكنه قدر الله الذي لا يرد، قبلنا به، لكن الذكريات ما زالت تعيش في أنفسنا وضميرنا.
للحظة الأولى قلت بأن الوطن لا ينسى أبناءه الذي بنوا وجاهدوا وناضلوا في سبيله.
ذاك الجيل الذي عاصر أصعب أيام الوطن، لكنه لم يتبدل ولم يتغير ولم يتطلع الى أكثر من أن يبقى الوطن حرا عزيزا.
كنت في صغري أصحو في الصباح الباكر لأرى والدي المرحوم بإذن الله، وهو يرتدي بزته العسكرية ليذهب الى المعسكر.
كنت أتتبع كل خطوة يقوم بها، وكنت أذهل بدقة ترتيب اللباس العسكري، من "الجارزة" الى "الكايش" ثم "البسطار" ثم "البوريه"، وكما كنت أستمتع وأنا اراه باللباس العسكري ويغادر المنزل، كنت في تمام الساعة الرابعة والنصف مساء أذهب لأنتظره على جانب الطريق الرئيسي في الرصيفة، وكنت أنتظر بلهفة سيارة "الكونتنتال" لتقل أبي الي مجددا وأراه وهو يقفز منها ويودع أصحاب "السلاح" الجنود، وكنت أميز السيارة التي تقل أبي من خلال إشارة سلاح الهندسة "الزرقاء"، ففي هذا الوقت كانت كثير من سيارات الجيش تمر عبر الشارع الرئيسي وهي تقل الجنود من معسكراتهم الى منازلهم.
وبعد أن "يقفز" أبي من السيارة، وأنا أنظر إليه مبهورا بقوته وبهيبته باللباس العسكري، وأستقبله بكلمة "يعطيك العافية" التي إعتدنا وإخوتي أن نستقبله بها دائما، كنت أمسك يده بشدة لأتصاحب معه في الطريق الى المنزل، وكأنني لا أريد للطريق أن ينتهي، فأنا في رفقة اعز الناس، واقواها، وأشرفها، واغلاها على قلبي، جندي أردني كان يوما مشروع شهيد عندما كان في صفوف حرب الكرامة الأمامية، ثم ذهب دون أن ندري متى يعود وننتظر وأمي الساعة والدقيقة والثانية لتمر عندما ذهب الى المعركة بعد أن تعرضت البلاد لأعتى الايام في بدايات السبعينات وفي أيام ما عرف بأيلول الأسود ومرحلة "الفدائيين"، ففي تلك الايام كنا نبيت ونحن نرتعب خوفا مما يجري حولنا في مدينة الرصيفة، فنحن أسرة جندي يحارب بالجيش، وفي نفس الوقت محاطين بمن "أوهموا" وإعتقدوا بأن معركة "الغرب" لن تحل الا على حساب "الشرق"، فكنا نخشى على أبينا"الجندي" وهو ذاهب الى أداء الواجب، وحين كان يغيب، كنا نرتعب خوفا بأن يكون قد وقع له مكروه لا سمح الله، وحين كان يطيل الغياب، كنت أذهب الى خزانته وأخرج بندقيته وأتحسسها لأشعر بالأمان، فهو ترك أسرته الصغيرة ليدافع عن الأسرة الكبيرة التي إذا ما أصبحت بأمان، أصبحنا نحن، أطفاله، بأمان، فهذه عقيدته التي كان يدافع عنها ويحارب من أجلها.
في يوم ما، حضر الى المنزل قبل موعد "ترويحة العسكر"، جلس في مكانه المعتاد على "الجنبية" في "سدر" الغرفة معقود الجبين، غاضب، ولشدة غضبه منذ دخوله المنزل لم تسعفني شجاعتي لأدخل معه الغرفة في البداية، لكني لاحظت أن "الكايش" ليس معه، وأخذ يخبر أمي، وكما العادة في كل يوم، عن ما جرى معه في في المعسكر، لكنني لاحظت أنه يتحدث وهو غاضب عن إشكال وقع بينه وبين أحد الضباط، بعد مرور وقت قصير، لاحظت وجود سيارة عسكرية "رنج" امام منزلنا، فأسرعت الى المنزل، ووجدت ضابطا كبيرا يجلس على الكرسي في غرفة الضيوف يتحدث مع والدي، ورغم أن ابي لم تظهر عليه علامات الخروج من حالة الغضب لكنني لاحظت على ملامحه علامات الرضى، وسمعت الضابط يقول له "يا سالم أنت تعرف أنك الأكثر إحتراما بيننا وما جرى لا يستحق بأن تضع الكايش على مكتبي وتخرج وأنت لك كل إحترام وتقدير بين كافة الجنود"، عندها علمت بأن ابي قد غضب على موقف ما، وأن قائد المعسكر حضر شخصيا الى المنزل بعد أن سأل عنه وعلم العنوان ليطيب خاطر والدي الذي يحظى بإحترام الجميع هناك.
عندما أخبرني شقيقي بتسمية إسم شارع في الرصيفة بإسم والدي، عادت الى ذهني قصة هذا الضابط الذي أعلم أنه تخرج من مدرسة الأردن العسكرية الهاشمية، هي المدرسة التي لا تنسى أبناءها، وتعلم كيف تأرخهم في ذاكرة الوطن سواء كانوا أعلاما أو جنودا على خطوطها الأمامية، ورسخ في ذهني يقينا بأن الوطن، الأردن الغالي، لا ينسى من جاهدوا وناضلوا لأجله، ومن لم تكن أعينهم على القصور والفلل وجمع المال، بقدر ما كانت تنظر الا لأمان الوطن.
كان أبي يحثني دائما على أن "أدرس" وأتعلم ويقول لي "أنا خدمت الوطن لاربع وعشرين سنة من عمري في الجيش العربي، وأريدك أن تخدم الوطن ايضا بشهادة تحملها وتقدم له من مكان ما وفي وقت ما كل ما تستطيع وتقدر".
رحمك الله ابي، وكم أود أن أخبرك بأنك لم تغب عن ذهننا وضميرنا يوما، وكما نحن، فالوطن أيضا لم ينساك ولم ينسى أنك كنت جنديا تستحق كما كثير مثلك، أن تخلد في ذاكرة الوطن.
Nashat2000@hotmail.com