يبدو ان هنالك اجماعا بين غالبية المؤرخين على ان الانطلاقة الكبرى للأفكار المسيحية المتهودة تعود في اصولها الى مرحلة الإصلاح الديني التي شهدت ظهور الحركة البروتستانية بمذاهبها المختلفة بدءا من القرن السادس عشر.
وما لبثت المسيحية المتهودة ( او الصهيونية المسيحية ) ان أصبحت مع نهاية القرن الثامن عشر تيارا راسخا في الثقافة الغربية ، الا انها تحولت منذ ذلك التاريخ من ميدان اللاهوت الى ميدان السياسة ( رضا هلال ، المسيح اليهودي ونهاية العالم ، ص ٧٠ ).
وكان نابليون بونابرت اول رجل دولة يقترح بشكل جدي إقامة دولة يهودية في فلسطين. ويبدو انه كان مطلعا على الاتصالات التي كانت تجري بين زعماء يهود فرنسا والحكومة الفرنسية عشية استلامه السلطة، فقد قامت حكومة الادارة الفرنسية عام ١٧٩٨ بإعداد خطة سرية لإنشاء كومنولث يهودي في فلسطين حال نجاح الحملة الفرنسية في احتلال مصر والمشرق العربي بما فيه فلسطين، وذلك مقابل تقديم الممولين اليهود قروضا مالية للحكومة الفرنسية التي كانت تمر آنذاك في ضائقة اقتصادية خانقة، اضافة الى المساهمة في تمويل الحملة الفرنسية المتجهة صوب الشرق بقيادة نابليون بونابرت ، وان يتعهد اليهود ببث الفوضى واشعال الفتن وإحلال الأزمات في المناطق التي يرتادها الجيش الفرنسي لتسهيل امر احتلالها.
وابدى العديد من زعماء يهود فرنسا استعدادهم للتجاوب مع مقترحات الحكومة الفرنسية، بل ودعا احدهم الى تكوين مجلس يضم جميع الطوائف والفئات اليهودية بحيث تكون باريس مقرا له ليعمل بالتنسيق مع الحكومة الفرنسية من اجل اعادة بناء وطن يجمع شمل اليهود وينظم حياتهم ( خيرية قاسمية ، النشاط الصهيوني في الشرق العربي وصداه ص ١٢) . ومضى هذا الزعيم اليهودي في دعوته التي تضمنها منشور اصدره غفلا من التوقيع قاىلا فيه : ان عددنا الان يبلغ ستة ملايين نسمة ونحن منتشرون في مختلف أقطار العالم وفِي حوزتنا ثروات طائلة، فيجب ان نتذرع بكل ما لدينا من وسائل لإنشاء وطن لنا ... وهذا الوطن الذي نسعى لتحقيقه بالتنسيق مع فرنسا يشتمل على مصر السفلى ( الوجه البحري ) ويمتد شرقا منتهيا بخط يبدأ من مدينة عكا الى البحر الميت ومن جنوب هذا البحر الى البحر الأحمر . وموقع هذا الوطن من أنفع المواقع في العالم ، ويتيح لنا السيطرة على ملاحة البحر الأحمر والقبض على ناصية التجارة مع الهند وبلاد العرب وافريقيا الجنوبية والشمالية . كما ان مجاورة حلب ودمشق تسهل تجارتنا وتدعمها . اضافة الى ان موقع بلادنا على البحر المتوسط يمكننا من التواصل بسهولة مع كل من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا .
وقد ادرك نابليون بونابرت لدى توليه قيادة الحملة الفرنسية على مصر مدى الخدمات التي كان بمقدور اليهود عامة ويهود فرنسا والشرق خاصة تقديمها له . ولذا فانه اصدر بمجرد وصوله الى مصر عام ١٧٩٨ بيانا حث فيه جميع يهود اسيا وافريقيا الالتفاف حول رايته من اجل اعادة مجدهم الغابر وإعادة بناء مملكة القدس القديمة ( Franz Kopler , The Vision Was There , p 44) .
وما لبث نابليون ان وجه لليهود نداء اخر اثناء حصاره مدينة عكا عام ١٧٩٩ ، وكان مما ورد فيه : ان العناية الإلهية التي أرسلتني الى هنا على راس هذا الجيش قد جعلت العدل رائدي ، وكفلتني بالظفر ، وجعلت من أورشليم مقري العام ، والعناية الإلهية ستعينني على نقل هذا المقر فيما بعد الى دمشق قلب الشرق . وتابع نابليون نداءه مخاطبا اليهود بقوله يا ورثة فلسطين الشرعيين ! ، ودعاهم لمؤازرته طالبا منهم العمل على اعادة احتلال وطنهم ودعم أمتهم والمحافظة عليها بعيدا عن اطماع الطامعين لكي يصبحوا اسياد بلادهم الحقيقيين ، ومضى نابليون في بيانه قائلا : سارعوا !! ان هذه هي اللحظة المناسبة ، التي قد لا تتكرر لآلاف السين - للمطالبة باستعادة حقوقكم التي سلبت منكم لآلاف السنين - وهي وجودكم السياسي كأمة بين الامم وحفكم الطبيعي المطلق في عبادة بهوة ، طبقا لعقيدتكم ، علنا والى الأبد. ( ورد هذا البيان كاملا في : Fran’s Kopler , Napoleon and the Jews ) .
ويعزو المورخ S. W. Baron أسباب إصدار نابليون هذا النداء الى رغبته في استقطاب الجاليات اليهودية في الشرق ، وجمعها تحت لوائه لتحارب معه وتكون عونا له قي دعم نفوذه وتثبيت سلطاته . وبالاضافة الى ذلك فان نابليون كان يهمه من وراء هذه الدعوة كسب ثقة يهود فرنسا ودعمهم المادي في صراعه الذي بات وشيك الوقوع مع حكومة الادارة الفرنسية . ويضيف بعض المؤرخين الى نداء نابليون هذا هدفا اخر وهو تشجيع اليهود على التوطن في فلسطين بغية إيجاد حاجز مادي بشري يفصل المشرق العربي عن مغربه ، واستغلال ذلك في تسهيل وتدعيم الاحتلال الفرنسي في ذلك الجزء من العالم . كما كان نابليون يهدف الى تهديد مصالح بريطانيا من خلال إغلاق طريق مواصلاتها المؤدي الى الهند.
ويعتبر هذا البيان النابليوني اول وعد بلفوري يتضمن اعترافا نابليونيا بوجود قومي لليهود وبحق لليهود في وطن قومي في فلسطين . وهكذا سبق نابليون في وعده وعد بلفور بما يزيد عن قرن من الزمن . وإذا كانت إشارات البيان تعبر عن مسيحية متهودة ، الا انه في حقيقة الامر كان يعكس اهتمامه الشخصي باستغلال اليهود في خططه الاستعمارية . وهناك - على سبيل المثال - إشارات في بعض المصادر الى ان نابليون كان يهمه كسب رضا وتأييد بعض المتنفذين اليهود في الشرق مثل حاييم فارحي الوزير اليهودي والمستشار المالي لحاكم عكا ، الذي كان يتمتع بنفوذ مالي واقتصادي في عكا ، ويتولى مسؤولية تزويد المدينة باحتياجاتها التموينية. والغذائية ( Nahum Sokolow , History of Zionism , p 50 ) .
غير ان هزيمة نابليون امام أسوار عكا عام ١٧٩٩ سرعان ما قضت على احلامه التوسعية في الشرق وبالتالي فان بيانه البلفوري فقد أهميته وتلاشت قيمته . ومما يسترعي الانتباه في هذا الصدد ان عامة اليهود لم تبد اهتماما جديا بدعوة نابليون المتضمنة وعدا باقامة دولة لليهود في فلسطين . وهذا يؤكد ان التفكير اليهودي باستيطان فلسطين لم يكن قد تبلور بعد ،. وان جل اهتمام اليهود في هذه الفترة كان يرتكز على تثبيت اوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية في البلاد التي كانوا يعيشون فيها دون الانسياق وراء مغامرات قد تعرض حياتهم للخطر .
وبالرغم من تلاشي مشروع نابليون الا انه اظهر بوضوح ان اي محاولات للتوسع الامبريالي الغربي في الشرق العربي ستتخذ من مشاريع توطين اليهود في فلسطين ذريعة للتدخل في مصير هذا الجزء من العالم ، وستعمل جاهدة على تحقيق هدفها الكبير بايجاد كيان يهودي حليف يتم تسخيره لخدمة مصالح الامبريالية الغربية نفسها .
وكان نابليون يدرك بفطنته ودهائه ما يجول في اذهان الزعماء اليهود . ولذا فاننا نجده لا يتردد في اتباع اسلوب اخر لاسترضاء اليهود والحصول على مساعدتهم حينما دعت الحاجة لذلك ثانية . فنابليون كان واثقا ان الصدام بينه وبين روسيا القيصرية امر لا مفر منه . ولذا فانه اخذ يهيئ جيشه للزحف على روسيا عبر المسافة الطويلة التي تفصلها عن فرنسا . وترتب على ذلك ان الحاجة قد برزت من جديد للمساهمة اليهودية في تمويل حملته العسكرية المتجهة الى روسيا . والاهم من ذلك كله انه كان حريصا على كسب تأييد وولاء اليهود الروس واستغلالهم كطابور خامس خلال الحرب ، اذ كان القسم الاكبر من اليهود الروس يعود الى اصل بولندي ، حيث انه حينما تم تقسيم بولندا للمرة الثالثة عام ١٧٩٥ بين كل من روسيا وبروسيا والنمسا ، حصلت روسيا بمقتضى ذلك التقسيم على مناطق واسعة من بولندا بما فيها دوقية وارسو التي كان يقطنها اليهود باعداد كبيرة. وقدر عدد اليهود الذين اصبحوا يعيشون تحت الحكم الروسي انذاك حوالي ١،٤ مليون نسمة . ومن اجل ذلك دعا نابليون في سبتمبر عام ١٨٠٦ الى عقد السنهدرين Sanhedrin وهي الهيئة القضائية العليا لليهود التي كانت قائمة في الازمنة القديمة ، واستمر اجتماعها حتى نهاية فبراير عام ١٨٠٧ ، حينما اعلن نابليون ان اليهود اصبح لهم كيان رسمي داخل الدولة ، وان الديانة اليهودية اصبحت احدى الديانات الرسمية في فرنسا ، وان من حق الموسسات الدينية اليهودية فيها ان تحظى برعاية وحماية الدولة . وقد ضم هذا الاجتماع حوالي ٨٠ شخصية دينية وعلمانية يهودية برئاسة David Sinzheim ، وكانت هذه الشخصية تمثل مختلف يهود البلدان التي كانت تسيطر عليها الجيوش الفرنسية زمن نابليون بونابرت ( Howard Sachar. ,The Course of Modern Jewish History , pp 61-65) . وتعهد نابليون باجبار حكام الدول الاوروبية التي يحتلها على منح اليهود من سكانها الحقوق التي منحتهم اياها فرنسا كما حدث في هولندا وسويسرا ، غير ان هذه الوعود والتعهدات سرعان ما تلاشت بعد هزيمة نابليون في واقعة واترلو عام ١٨١٥ .
ويلاحظ ان تبني فرنسا لفكرة توطين اليهود في فلسطين قد بدأت حدتها تفتر في اعقاب الفترة النابليونية ، وذلك لانشغال فرنسا عن الشرق بمشاكلها الداخلية والتوجه بمشاريعها التوسعية نحو مناطق اخرى ، وبالرغم من ان المحاولات النابليونية في التقرب من اليهود لم يتمخض عنها نتائج سياسية انية ، الا انها اثارت حمية المسيحية الصهيونية البريطانية التي كان من نصيبها تجسيد الحلم الصهيوني في ٢نوفمبر عام ١٩١٧ بوطن قومي لليهود في فلسطين .