لقد راعني في اكثر ما راعني خلال فترات الحظر والهذيان التي تمر ثقيلة الخطى كئيبة المحيا منظر راع يسوق قطيعه ممسكا بعصاه وحماره يسير امامه ومن خلفهم مرياع يتمايل فرحا بجرس كانوا قد علقوه برقبته وقطيع مطأطأ الرأس مغمض العينين يسير على غير هدى حيث تقوده خطوات الحمار الى مصيره المجهول.
في أيام الربيع الخوالي كنت اتابع هذا المشهد باهتمام وانا احتسي فنجان قهوتي وابتسم ساخرا من هذا القطيع الذي اسلم مصيره لحمار يجهل هو نفسه المصير وكم حمدت الله وشكرته لانه ميزني عن باقي خلقه وكرمني بحق اختيار المصير.
مضى الوقت وانا اراقب القطيع تارة وتارة اخرى أرقب حركات الراعي ومن ثم خطوات الحمار لعلي اهتدي الى المكان الذي يقصدونه وكلما اراد الراعي ان يحرك القطيع أومأ لحماره ولوح بحزمة من العشب لمرياعه ذلك الذي اخذه الغرور وانسلخ عن بقية افراد جلدته مقابل جرس وقليل من ادوات الزينه فباع القطيع وعلق الجرس، وكلما سمعت الاغنام صوت الرنين ظنت ان الفرج قادم لا محاله والكلأ والماء في الانتظار فسارت خلف المرياع ومن امامه الحمار الذي بدا وكأنه يحفظ الطريق عن ظهر غيب غير مكترث بوعورتها او حتى الغامها فغابت الحكمه وبقي الحمار يقظا كي يوصل القطيع الى زريبته ويغلق الابواب قبل غروب الشمس.
كم هي تعيسة تلك الاغنام، اخذت احدث نفسي وكم رثيت لحالها وانا الذي قضيت العمر مؤمنا بحرية الفكر وتقرير المصير وكم سخرت من عالم الاحياء هاملتون صاحب نظرية القطيع والتي بقيت على مر العصور محط جدل وانتقاد الكثيرين وبقي هذا العالم يتوه في عماه ويعتبر نظريته الاكثر واقعيه في مختلف صنوف المجتمعات فهل خانه ذكاءه ليحط من قدر الانسانيه وينزلها منازل القطعان
كم هي عميقة تلك الدروس التي تستمد من ذلك القطيع فلطالما حاربت تلك النظرية البلهاء واعتبرتها ابعد ما تكون عن واقع الانسان صاحب الاراده وصانع الحضارات فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. الى ان جاء زمان اطلق عليه زمن الكورونا واحببت ان اسميه زمن وهم الكورونا فوجدت نفسي مضطرا لان اقدم اكثر اعتذارا اوجعني في حياتي للعالم هاملتون فهانذا اعتذر له عن وهم الانسانيه الذي اسرني عقودا طويله وهانذا انفض الغبار عن تلك النظريه معيدا التفكير في ملامحها فكم كان هاملتون مدركا لحقيقة البشر الذين ادمنوا الاذلال ولم يبقى لهم في نهاية المطاف الا ممارسة دور الضحيه او دور القطيع.