اسرائيل تبني مملكة داود على طريق الحرير
29-06-2020 02:35 PM
اسرائيل تبني مملكة داود على طريق الحرير
وسط اضطرام نار المتوسط وخفوت وهج الخليج ..
"عندما اشرقت الشمس، علمت أن باستطاعتنا أن نفعل أي شيء نريد"، تلك كلمات جولدا مائير في اليوم التالي لحرق المسجد الأقصى، حين أدركت أن العرب لم يهبوا إلى فلسطين افواجاً لإنقاض مقدساتهم وغسل عارهم. وهكذ مضت قصة الصراع العربي-الصهيوني، واليوم تشرف اسرائيل على الإنتهاء من المرحلة الأولى من إحياء مملكة داود، بينما تعد نفسها للإنطلاق للمرحلة الثانية في سعيها نحو الهيمنة والسطوة على المنطقة برمتها، من مضائق التاريخ عند جبل طارق إلى باب المندب وهرمز. تعتمد دولة الكيان في استراتيجيتها الجديدة على أربعة أعمدة أساسية في عملية إحكام السيطرة على حلمها الأبدي في العلو الأكبر، أولها إعادة التمركز في علاقتها مع أمريكا، وثانيها الاستثمار في مبادرة الحزام والطريق الصينية، وثالثها الهيمنة على شرق البحر الأبيض المتوسط، ورابعها بناء تحالف مع بعض دول الخليج، تتولى فيه موقع القيادة السياسية والريادية الاقتصادية.
تفرغ إسرائيل اليوم من أمريكا، بعد أن أدت دورها وضمنت سيطرتها عليها؛ إذ تسللت الصهيونية إلى كل زوايا الحكم والمال والإعلام والعلم فيها، واستثمرت قوتها العسكرية والسياسية والإقتصادية في إخضاع الشرق العربي، بتدمير العراق كلياً وزراعة نظام طائفي في قلبه، ثم تفتيت سوريا بالإرهاب والحصار وتجويعها بقانون قيصر، وضرب اقتصاد لبنان في مقتل، وإغراق الأردن بالديون إذ يحارب السراب على عدة جبهات، وأخيراً إدخال الخليج، عنوةً أو طوعاً، في مخدع التطبيع. أصبحت إسرائيل كذلك قوة إقتصادية متنامية بحجم صادرات بلغ 114 مليار دولار عام 2019، منها الآلات والمعدات التكنولوجية والطبية المتقدمة وأجهزة الحاسوب والمواد الكيميائية العضوية والنانوية والبلاستيكية والأدوية والمستحضرات الصيدلانية والدرونز والطائرات والمركبات الفضائية والغاز الطبيعي، إضافة إلى السلاح التكنولوجي المتطور الذي تصدر منه ما قيمته 7.2 مليار دولار، وبذلك تحتل المركز الثامن عسكرياً بين دول العالم حسب معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام في تقريره الذي صدر في 9 آذار/مارس 2020.
المحور الثاني في الإستراتيجية الإسرئيلية يعتمد على بناء تحالف مع الصين يقوم على المصلحة المتبادلة وملء الفراغ الذي سيخلفه نظام القطب الأوحد الدولي الذي استمر لثلاثة عقود، عبر إيجاد موطيء قدم لها في مبادرة الطريق والحزام الصينية التي أطلقها الرئيس الصيني عام 2013. تهدف تلك المبادرة إلى ربط الصين مع زوايا العالم الأربع على أنقاض طريق الحرير التاريخي وعبر بناء شبكة واسعة من الطرق البرية وسكك الحديد، إضافة إلى السيطرة على سلسلة الموانيء الحيوية التي تقع على طول خطوط البحرية من بحر الصين الجنوبي إلى المحيط الهندي وبحر العرب، ثم إلى إفريقيا ومن الأحمر إلى الأبيض. وتتعدى المبادرة العالم المادي إلى الافتراضي حيث تسعى الصين إلى استحداث شبكة ألياف ضوئية وطرق إنترنت جديدة عبر شبكة الجيل الخامس التي حازت فيها هواوي على قصب السبق وتجاوزت الشركات الأمريكية، كما أن هنالك حديث عن محاولة الصين وصل المحيط المتجمد الجنوبي بالشمالي. وتشمل المبادرة كذلك إنشاء متنزهات علمية وجامعات ومصافي بترول ومحطات تحلية مياه البحر ومحطات توليد الطاقة الكهربائية والشمسية والصخرية وسكك الحديد والطرق والأنفاق والسدود وقواعد بحرية وعسكرية في كل الدول التي وقعت عليها وبلغت 60 دولة لغاية الآن، وبذلك تعتبر المبادرة أعظم مشروع للبنية التحتية في التاريخ بقيمة قد تبلغ 8 ترليون دولار. تبغي الصين من مبادرة الطريق والحزام إذاً الوصول إلى 60% من سكان العالم لنقل بضائعها وثقافتها وأفكارها إليهم، وتشغيل عمالها وشركاتها وتعظيم استثماراها وتأمين حاجاتها، وبالذات النفط والغاز، وبذلك تحقق طموحها في أن تغدو دولة عظمى في عالم متعدد الأقطاب، خصوصاً بعد تراجع أمريكا عن العولمة لصالح الإنعزالية وبعد تقليص نفقاتها العسكرية على حلفاءها حول العالم.
يشير كتاب صدر حديثاً عن مؤسسة راند الأمريكية تحت عنوان: "الاستثمار الصيني في التكنولوجيا والبنية التحتية الإسرائيلية"، أن إسرائيل تسعى إلى ربط اقتصادها بالصين لفتح أسواقاً جديدة للتصدير والإستثمار بعيداً عن الولايات المتحدة وأوروبا، رغم أن لجنة مجلس الشيوخ الأمريكي أقرت في 22 آيار/مايو 2020، بهدوء ودونما ضجة، حزمة مساعدات عسكرية لإسرائيل بقيمة 38 مليار دولار تصرف على مدار العقد القادم. بدورها، تهدف الصين إلى الإفادة من التكنولوجيات الناشئة وريادة الأعمال في الشركات الإسرائيلية، كما استغلال موقعها الجغرافي لأغراض مبادرة الحزام والطريق، خصوصاً مينائي حيفا وأشدود. لذلك تقوم الصين حالياً بتنفيذ أربعة مشاريع رئيسية كبرى في البنية التحتية في إسرائيل بقيمة 4 مليار دولار، منها توسيع ميناء أشدود وبناء محطة جديدة بميناء حيفا؛ مع حقوق تشغيل لمدة 25 عاماً، وبناء وتشغيل خط سكة حديد في تل أبيب وحفر أنفاق الكرمل. هنالك كذلك مقترح لبناء خط سكة حديد بين إيلات والبحر الأبيض المتوسط بكلفة 2 مليار دولار، ناهيك عن جهود الصين لشراء محطة ألون تافور للطاقة الكهربائية ومحاولاتها الحصول على عطاء لبناء سادس محطة تحلية مياه في منطقة سوريك جنوب تل أبيب بكلفة 1.5 مليار دولار، خسرتها لصالح شركة إسرائيلية، ربما بعد ضغط من وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أثناء زيارته الأخيرة لإسرائيل في 13 آيار/مايو 2020.
تستثمر 11 شركة صينية ضخمة حالياً في التكنولوجيا الناشئة في إسرائيل، إضافة للعديد منها التي تقدمت بعطاءات لم يتم الانتهاء منها بعد. وتتصدر شركة علي بابا وبايدو وهواوي ولينوفو وتنسنت وشاومي قائمة هذه الشركات، وينسق أعمالها في تل أبيب مكتب اتصال Z-Park الذي يعتبر أكبر قاعدة علمية وتعليمية للابتكار وريادة الأعمال في الصين؛ إذ يقدم خدماته لحوالي 20000 شركة ذات تقنية عالية ويضم 40 جامعة وكلية وأكثر من 200 مؤسسة علمية وطنية منها الأكاديمية الصينية للهندسة، إضافة إلى 67 مختبراً، 27 مركزاً وطنياً للبحوث الهندسية، 28 مركزاً وطنياً للهندسة والبحث التكنولوجي، 24 متنزهاً جامعياً للعلوم والتكنولوجيا، 29 متنزهاً رائداً للطلاب الأجانب، ويتجاوز حجم الأعمال فيه 800 مليار دولار سنوياً. وبهذا تعزز إسرائيل علاقاتها مع الصين، رغم المعارضة الأمريكية الشديدة لها، وتتحول تدريجياً إلى شراكة إستراتيجية عمادها التبادل التكنولوجي وأساسها طريق الحرير وحزامه.
البعد الثالث في الاستراتيجية الإسرائيلية تخوض غماره فوق أمواج المتوسط وفي أعماقه، حيث الصراع على مصادر الطاقة وإقامة التحالفات الإقليمية مع قبرص واليونان وإيطاليا ومصر في مواجهة تركيا وفلسطين وسوريا ولبنان، ويظهر ذلك جلياً في الحرب الدائرة حالياً على الأراضي الليبية. ورغم أن حقل غزة مارين، الذي يحتوي على ترليون قدم مكعب من الغاز، كان أول الحقول المكتشفة في شرق المتوسط أواخر القرن الماضي، إلا أن معارضة اسرائيل في تطويره حالت دون الإفادة منه، بينما قامت هي باستغلال حقل تمار باحتياطي 8 تريليون قدم مكعب عام 2009، ثم حقل ليڤياثان باحتياطي 18 تريليون قدم مكعب، وكلاهما يقعان في حوض بلاد الشام المائي، ثم اتفقت مع قبرص واليونان لمد خط أنابيب إيست-ميد بطول 1900 كم بحلول عام 2025 لتصدير 11 مليار م3 إلى أوروبا سنوياً من حقل ليڤياثان وحقل كاليبسو القبرصي. كل ذلك يجري بموازاة الإتفاقيات التي عقدتها اسرائيل، بضغط أمريكي، مع الأردن ومصر، رغم امتلاك الأخيرة حقل ظهر العملاق الذي اكتشف عام 2015 باحتياطي 30 تريليون قدم مكعب ويستخرج منه حالياً أكثر من 3 مليار قدم مكعب، إضافة إلى حقلي آتول والنورس شمال مصر. ومع ذلك، يدخل صراع المتوسط مرحلة معقدة بعد خروج تركيا خالية الوفاض واستبعادها عن منتدى غاز شرق المتوسط، ومحاولتها قطع الطريق على خط أنابيب إيست-ميد بتحالفها مع حكومة الوفاق الليبية لتأمين احتياجاتها من الطاقة، ما أثار حفيظة مصر واتجهت إلى إنشاء أنبوب لنقل الغاز من قبرص لإعادة تصديره عبر مراكب الغاز المسال، وكذلك السعي لعقد تحالف مع اليونان لسد الطريق على تركيا في تحالفها مع ليبيا. لذلك، تعمل إسرائيل، بالتعاون مع الحكومة الأمريكية وشركات الطاقة من مثل نوبل إنيرجي، على إضرام النار في المتوسط واستغلال كل أزمات المنطقة للاستحواذ على امتيازات التنقيب والحصول على الحصة الأكبر من الغاز وربما تحديد مصير الطاقة فيه وطرق توريده إلى أوروبا ودول المنطقة.
العمود الرابع في الاستراتيجية الإسرائيلية يعتمد على التحالف مع بعض دول الخليج، بحجة البعبع الإيراني، وذلك من أجل الخروج من عزلتها والإندماج تدريجياً في محيطها العربي تمهيداً لتنفيذ خطتها في أن تصبح البوابة الاقتصادية للمنطقة بأسرها. كما تهدف اسرائيل من ذلك إلى نزع الغطاء الإسلامي عن القضية الفلسطينية وحرمان الشعب الفلسطيني من الدعم المالي، سواء المباشر أو عبر الجاليات الفلسطينية المنتشرة على المساحة العربية، بل وجعل تلك الجاليات ورقة ضغط على القرار السياسي من أجل السير في ركب صفقة القرن وتصفية القضية. كما تأمل إسرائيل في فتح الأسواق العربية لكافة منتجاتها عبر بناء طريق الحرير خاصتها، يصلها بدول الخليج والعراق، ثم مصر وشمال إفريقيا في مرحلة لاحقة. كما أن اسرائيل تطمع في التوغل في صحراء بادية الشام، وما وراءها وحولها، من أجل الحصول على عمق إستراتيجي وديمغرافي هي بأمس الحاجة إليه بصفتها ساقطة عسكرياً ومزدحمة سكانياً في وضعها الحالي.
أرض الميعاد لم تعد تكفي لمملكة داود، وإسرائيل تدرك ذلك وتسعى لتحقيق ذاك الحلم مستغلة بؤس العقل العربي المستقيل، وجهله في السياسة وعجزه عن استفزاز غرائزه الفطرية في صراع البقاء ورغبة العيش. وتذهب الصهيونية العالمية اليوم بعيداً في مخططها؛ إذ تدرك أن لا مكان لها مع العروبة على أرض الأنبياء، فتحالفت مع الهند لكبح جماح الدول الإسلامية في أواسط آسيا التي تمثل عمقاً حضارياً للعرب، واخترقت دول شرق افريقيا حتى تمكنت من إقناع إثيويبا في بناء سد النهضة الذي يهدد مصر والسودان وجودياً، ولعبت الروليت الروسي مع إيران الشيعية وتركيا السنية، ونشرت كل موبقات الطائفية والشعوبية في أرجاء الوطن العربي حسب مقولة عضو الكينيست إلي ميخائيل بن دهّان: "لا تبنوا الجدران، دعوا العرب يبنونها بأنفسهم، فالسلام يمكن صنعه مع الأعداء لا مع القتلى". مملكة داود أصبحت ماثلة أمام ذاك العقل العربي المستقيل، إذ يتردد صداها في كل الأرجاء، وبكلمات تيودور هرتزل ذاته، منظر الصهيونية الأول، حين قال: "نحن ننظم اليهودية لقدرها القادم، فالحلم والفعل ليسا مختلفين كما يعتقد الكثيرون. كل أعمال الرجال كانت أحلاماً في البداية، وأصبحت حقائق في نهاية المطاف".