لم تكن الحروب إلا قدر هذا الوطن العنيد وأهله الصناديد، ولعل أحدثها وليس آخرها حربه مع "كورونا"، هذا العدو الذي لم نعرف من قبل مثيلاً له من حيث أنه يرانا ولا نراه؛ غزانا في نحورنا وجثم على صدورنا وأثار الرعب فينا، وكمم أفواهنا وحاصر أرواحنا.
حرب يقودها ويخوضها رأس الدولة، سيدي صاحب الجلالة الهاشمية، سليل أهل الرّفادةِ والسقايةِ ووارث الراية وصاحب الوصاية؛ جنودها حكومته الرشيدة ونشاما الجيش العربي والأمن الوطني والفرق الطبية وشعب هذا الوطن؛ عُجُزهُ ورجالهُ ونساؤهُ وشُبّانهُ وشوابّهُ وحتى ذوو الاحتياجات الخاصة من أبنائه بل والأجنة المتدثرون في أرحام امهاتهم...
حرب فتكت بالقليل من الأعزاء عليهم رحمة الله وأثخنت الكثير جراحاً نفسيةً، جراحاً لم يسلم منها أحد، فاتحدت العقول والجهود وخططت وقررت ونفذت، وتم إدارة هذه الأزمة بمهنية وحرفية وشجاعة فكان النصر حليفنا بحمد الله...
ولكن مهلاً، فالحرب لم تضع أوزارها، ولها ما بعدها بالتأكيد، إلا أنني كمواطن عايش هذه الجائحة اللئيمة، وتابع إدارة كافة مؤسسات الدولة لها تولدت لدي القناعة المطلقة باننا نستطيع ان نهزم عدواً يتربص بنا نراه ويرانا وتيقّنت اننا نستطيع ان نقضي على ڤيروسات عاشت معنا وبيننا لسنين وسنين، تتكلم لغتنا وتحمل ملامحنا، ولكنها لا تمتلك قلوباً كقلوبنا ولا ضمائراً كضمائرنا؛ ڤيروسات لا تقل خطورتها علينا من كورونا، كانت قد امتدت أيديها خلسةً الى عصب الدولة (المال العام)، زمرة بعد زمرة، فخانت العهد، وجاهرت بنقم الله؛ نهبت واستباحت واستكانت واستراحت، وتصدرت المناسبات، ولكنها في العسرة سرعان ما انكمشت وتحوصلت وبخلت واستغنت..
مقاصد القول، أن نجاحنا في ادارة هذه الأزمة المُلمّة مؤشر قوي على اننا نستطيع النجاح في ادارة أزمتنا الاقتصادية وغيرها من الملفات المستدبرة والمستقبلة وبأننا نمتلك القرار والإرادة والأدوات في سبيل هذه الغاية...
لذا ووفقاً لما تقدم كان لزاماً على مَواطن القرار في بلدنا تقييم تجربتنا مع هذه الأزمة الى أعلى درجات النجاح (الدروس والعبر) استشرافاً الى ما هو اشرس منها فقد تُفرض علينا حربٌ من حيث لا نحتسب، وقد تفاجئنا تغييرات مناخية او جيولوجية بما لم يكن في الحسبان، وقد يباغتنا النظام العالمي الجديد بما قد لا يخطر ببال، وإلا فسنضع مصيرنا في صندوق من المفاجأت، في زمن لم يعد فيه فسحةٌ للمناورة او قيمة للمغامرة، إذ كلما امتلكنا القدرة على تفعيل الخبرات الجديرة وبناء وتعظيم العقول الدارسة الفاحصة في كل المجالات امتلكنا المزيد من الحصانة السيادية والمزيد من اسباب المنعة والمناعة..
نعم فالدولة التي استطاع " فرسان الحق " فيها إحباط اكثر من مخطط إرهابي، في خضم معركتها مع " كورونا " ، وما قبل " كورونا " تستطيع وتستطيع ، و "قدّها وقدود" وما أخطأنا سعيد عقل حين راح ينشد قائلاً :
أردنُّ ارض العزم أغنية الظّبا
نبَت السّيوف وحَدّ سيفِك ما نبا
فُرضت على الدُّنيا البطولةُ مشتهًىً
وعليكَ دينًا لا يُخانُ ومذهبا
مائة عام والحروب والنوازل والمحن تحيط بالاردن وهو راسخ رسوخ " أم الدامي " و" أم الدّرج" وما القمم الا قدر أولي العزم والشمم وما بين " القشة التي قصمت ظهر البعير " ، و" الضربة اللي ما تكسر الظّهر تقويه " بونٌ شاسع ، واللبيب من الإشارة ...
إن التدرج التصاعدي والأفقي، الذي انتهجته الدولة منذ سنوات في محاسبة الفاسدين والمتجاوزين على القوانين والأنظمة وهوامشهم وظلهم الظليل كان ناجحاً ولكنه لم يلب السقف الأعلى من المأمول لدى النظام وعموم الأردنيين، وبات من الضرورة أن "نجبّرها قبل لا تنكسر" عملاً بمقولة حكيم ...
كما أنه لابد ترميم وتعزيز وتكييف منظومتنا الأخلاقية الوطنية وقيمنا الاجتماعية - التي تراجعت بتأثير العولمة وما واكبها من ابتكارات - وتفعيلها سلوكياً مع الذات ومع الأسرة والجيران والعشيرة والزملاء والشركاء والبيئة داخل وخارج الوطن ...
إن العمل على كل ما ذكر سيُنهضنا الى المستوى المطلوب من الإدراك ، وسيؤهلناً تلقائياً لمواجهة ما يضمره لنا المستقبل- بمنأى عن ثقافة الفوضى والعشوائية والتنجيم - وللايمان بعقيدة الدولة ومشروعها الذي هو المظلة الأشمل والأعم والعنوان الأوحد الذي تندرج تحته ، وتنطلق منه كل المشاريع ، لكونه الضامن الوحيد - وليس اي شيء سواه - لإستدامة كل المشاريع والسبيل الأوحد لمجابهة اي خطر او تحد قد يواجهانا في المستقبل محلياً واقليمياً ودولياً ...
إن على من لم يسعفهم الوعي الكاف للإيمان بذلك أن يراجعوا حساباتهم جيداً لعلهم يرشدون ، أماً من راحت تسول لهم أنفسهم بتقويض مشروع الدولة تحت أي ذريعةٍ كانت فحسبهم خفّا حُنين عبرةً وعظة .
لم نتأخر وربما لم نتحرك بالسرعة الكافية حسبما أرى ، ولكن الوقت لم يفت لأن نخلع عن أكتافنا عباءة دولة القبيلة ، فنضع عقال قبيلة الدولة على رؤوسنا منذ اليوم دونما المساس بأصالة الموروث الوطني والثوابت القومية التي خُلقت من صلبها نواة العقيدة السياسية للدولة الأردنية الحديثة ...