إلى متى يبقى الشرق الأوسط جحيماً لا يطاق؟
حسن اسميك
26-06-2020 11:28 AM
يعد مفهوم الشرق الأوسط من أكثر المفاهيم الجغرافية والسياسية التباساً و اختلافاً من حيث امتداده الجغرافي؛ ولكن-وبعيدا عن هذا الجدل- من المتعارف عليه الآن أنه يشمل شمال أفريقيا وبلاد الشام والعراق وتركيا ودول الخليج العربي وإيران وأفغانستان وباكستان والدول الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفياتي حديثاً في آسيا الوسطى والسودان واثيوبيا وإسرائيل.
وفي العام 2004 اكتسب الشرق الأوسط اسْماً جَدِيداً هو "الشرق الأوسط الكبير" أطلقه عليه الرئيس الامريكي جورج بوش «الابن»؛ حين أفصح الرئيس الأمريكي عن مبادرته التي طرحها في قمة مجموعة الدول الصناعية الثماني المجتمعة في جزيرة "سي آيلاند" بالولايات المتحدة الأمريكية؛ والمتمثلة في صياغة شراكة بعيدة المدى مع قادة الإصلاح في الشرق الأوسط الكبير، وتطلق رداً منسّقاً لتشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة.
و بعد ذلك بعامين (2006) نحتت له وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس اسْماً آخر هو مشروع "الشرق الأوسط الجديد".
يتمتع الشرق الأوسط بموقع إستراتيجي هام، إذ يشرف على ممرات مائية إستراتيجية جعلت منه حلقة وصل أو جسر بين دول وقارات العالم؛ لذلك تنافست القوى الكبرى على مر التاريخ على السيطرة عليه، وارتفع منسوب الرغبة في الهيمنة عليه بعد اكتشاف النفط، مما جعله مسرحاً –إِبَّانَ الحرب الباردة-للتنافس والاستقطاب السياسي بين الدول العظمى. فكان موقعه وخيراته بمثابة "نعمةً ونقمةً" في آن واحد على المنطقة وسكانها!
الشرق الأوسط قوس الأزمات التي لا تنتهي
عانى الشرق الأوسط على مدار تاريخه من ويلات الحروب، بحيث يمكن وصفه بأنه من أكثر مناطق العالم حروباً ونزاعات، نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية؛ حيث تعتبر منطقة الشرق الأوسط منبعاً لأهم ثلاث أديان في العالم وهي: -من حيث ترتيب الظهور- (اليهودية والمسيحية والإسلام)، وكان من المفروض أن يؤدي انتشارها في العالم إلى المساعدة على إشاعة السلام بين ربوع هذا الشرق الأوسط المأزوم، لكن ذلك لم يحدث بل جلب على سكانه عداوة الآخر القادم من خارج المنطقة؛ فقد غزته حملات (الفرنجة) التي سميت لاحقا ( بالصليبية) بحجة الدفاع عن الأماكن المقدسة في فلسطين، مما أشعل نار الحروب مع أهالي المنطقة الذين رأوا في ذلك غزواً لنهب الثروات والخيرات وتحقيق الأطماع السياسية لا اكثر، هذا من جهة ومن جهة أخرى أيضا كان لهذا التنوع الديني والطائفي أثره الحارق على الشرق الأوسط؛ فرغم مراحل التعايش الطويلة بين اتباع الأديان جميعا إلا أنها لم تخلو من الصدامات والتعصب.
كذلك أدى تنوع أعراقه القومية والإثنية الذي يشبه لوحة فسيفساء قديمة (موزاييك) إلى توفير أرضية خصبة ومهيأة للاحتراب الداخلي، أو لجلب الطامعين من خارج المنطقة؛ بحجة حماية أقلية إثنية أو دينية، هذا من جهة ومن جهة أخرى، كان للتركيبة الاجتماعية لأغلب سكانه التي تتكون من مجموعات قبلية ترتبط بولاءات وهويات فرعية تقوم على أساس روابط مجتمع ما قبل الدولة (رابطة الدم) وعلى حساب الهوية الوطنية الجامعة التي تشكلت بعد خروج الاستعمار الغربي الحديث، إلى هشاشة الدولة الوطنية الحديثة التي أرادت صهر هذه القبائل في رابطة المواطنة والدولة المدنية التي تحمي جميع أعضاء المجتمع وتحافظ عليهم بغض النظر عن اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والفكرية،مما جعل بعض أقاليمه مسرحاً لصراعات قبلية مدمرة.
الشرق الأوسط لعبة الشطرنج الكبرى
لعبت القوى الكبرى دوراً مهماً ساهم في زيادة تشظي مجتمعات ودول الشرق الأوسط؛ حيث أدى قيام الدول الاستعمارية بالسيطرة عليه واعادة ترسيم حدوده ومن ثم اقتسامه فيما بينها إلى خلق خلافات حدودية مزمنة بين دوله. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وظهور الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية كقوتين عظميين،عاد التوتر من جديد للمنطقة؛فقد رغب كل طرف من القوتين في إستمالة دول الشرق الأوسط إليها،فدخلت بعض دوله في حلف المعسكر الغربي ودارت في فلكه الرأسمالي،و أخرى انضمت للمعسكر الشرقي ودارت في فلكه الإشتراكي، وبالتالي انخرط الشرق الأوسط في لعبة الأحلاف والتكتلات الدولية و سياسية المحاور.
وعندما انتهت الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفيتي،توقع الكثيرون أن يعم السلام ربوع هذا الشرق المأزوم؛ لكن الحرب أطلت برأسها من جديد حين نشبت حرب الخليج الثانية عام 1990 بعد غزو العراق للكويت، فاشتعلت المنطقة،وغزت على أثرها أمريكا العراق عام 2003 واسقطت نظام صدام حسين ،مما أدى إلى إندلاع حروب داخلية في العراق تجلّت في ظهور حركات إرهابية متشددة مارست العنف والقتل ضد مكونات أبناء شعبها،ناشرة البؤس والخراب في هذا البلد وفي بلدان عربية أخرى مجاورة.
ولا يفوتني هنا أن أعرج قليلاً على أحد عوامل التوتر وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وأقصد الصراع العربي الإسرائيلي، الذي امتد لأكثر من سبعين عاماً؛ قامت عدة حروب بين العرب وإسرائيل منذ قيامها عام 1948 حتى الآن، أدت إلى إستنزاف موارد المنطقة من أجل الحرب و التسلح العسكري على حساب التنمية الشاملة فيها. وفي مطلع 2011 خيم التوتر مجدداً على المنطقة؛حين ظهرت موجة احتجاجات شعبية سلمية في بعض الدول العربية أطلق عليها تسمية "الربيع العربي" طالبت بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، تطوّرت لاحقاً إلى صدامات دموية وحروب أهلية خرجت عن السيطرة ،مما أدى إلى قتل وتشريد الملايين،وإلى خسائر اقتصادية هائلة،و دخول قوى إقليمية ودولية في تلك الحروب،وبالتالي تم إشتعال الشرق الأوسط من جديد.
إدارة الصراعات أم حلها؟
خرجت الولايات المتحدة الامريكية و أوروبا منتصرة من الحرب الباردة؛فقد سقط الاتحاد السوفيتي وخرج من ملعب السياسية الدولية وأعلن العالم الغربي انتصار الديمقراطية الليبرالية والتي شكلت –حسب المفكر فرانسيس فوكوياما -"نهاية التاريخ"، بمعنى أن النموذج الديمقراطي الرأسمالي الغربي هو الأمثل والخيار الذي أثبت نجاعته وصلاحيته،وبالتالي هو أفضل ما تم انتاجه على صعيد الفكر السياسي والاقتصادي على مدى التاريخ،وسيبقى حلم يطمح لامتلاكه الكثير من شعوب الأرض، فهو خيارها الوحيد المنقذ لها من أزماتها السياسية والاقتصادية!
ولكن الأمل خاب عندما لم تمارس القوى الديمقراطية الكبرى الدور المأمول منها؛من حيث المساهمة في إطفاء حرائق الشرق الأوسط،بل إنها اكتفت بطرح مبادرات ومشاريع كانت بمثابة حبراً على ورق: كمشروع"الشرق الاوسط الكبير" و مشروع "الشرق الأوسط الجديد"،وبالتالي يمكنني القول بأن هذه المبادرات اللفظية كانت عبارة عن مساحيق ومراهم لجروح عميقة!،مما دفع الكثيرين من شعوب الشرق الأوسط إلى طرح عدة تساؤلات: هل حقاً تريد دول العالم الغربي أن تساعدهم في تقديم حلول تؤدي إلى إنهاء أزماتهم أم أنها تريد إدارتها لصالحها؟ وهل أصبح الشرق الأوسط"رقعةالشطرنج الكبرى" القديمة –خاصة- بعد ظهور رقعة شطرنج جديدة هي منطقة الشرق الأقصى؟
الخروج من الجحيم
لقد إرهقت شعوب الشرق الأوسط من كل ما يجري على مسرحها من فوضى غير خلّاقة وحرب "الكل ضد الكل"؛وهذا يستدعي منها أن تأخذ استراحة المحارب لتلتقط أنفاسها قليلاً و إعادة النظر في ما آلت إليه أوضاعها من خراب ودمار،حوّل رقعتها الجغرافية إلى أرض يباب،فهي شريكة -سواء - بوعي منها أو بغير وعي في إيقاد نار جحيمها؛ لذلك هي أمام تحدي تغيير طرائقها في التفكير وإعادة نهجها في التعاطي مع الشأن السياسي والاجتماعي والثقافي،حتى لا تؤكد المقولة الساخرة للفيلسوف كارل ماركس عندما قال:"إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة"!
نعم لقد آن الأوان لشعوب المنطقة أن يغيروا ما بأنفسهم فيكفوا عن الاحتراب والاقتتال الذي مزّق أوطانهم في سبيل"معارك دونكشوطية"لا طائل من ورائها إلا الخراب والدمار والفوضى وضياع الأمن؛لذلك يجدر بهم إن أرادوا الخروج من هذا الجحيم،البحث عن طريق ثالث،يتمكنون من خلاله من إقامة مشروع تنموي يمكن تسميته بمشروع "مارشال عربي أو إسلامي" ينتشلهم من حياة الضنك التي يحيونها.
وختاماً أقول، إنه رغم تشاؤم الكثيرين في منطقتنا –وهذا من حقهم-إلا أنني كنت وما زلت متفائلاً باجتراح المعجزة، ونهوض شرقنا الأوسط،تماماً كطائر الفينيق الأسطوري الذي ينبعث من بين رماد حريقه؛فالأمل هو المحرك الأول لقيام الحضارات،ولولاه لما استطاع البشر اختراق عالم المجهول،وقد قيل فيه عبارة أعجبتني ﻓَﺤْﻮاﻫﺎ :"إن أجمل هندسة في الحياة أن تبني جسراً من الأمل فوق نهر من اليأس".
ايلاف.
الكاتب رئيس مجلس أمناء مركز ستراتجيك للدراسات والأبحاث.