ثمة أطراف تعمل عن قصد لإرباك مؤسسات الدولة، وخلط الأوراق في وقت تنخرط فيه الدوائر المعنية بمراجعات جدية لملفات التهرب الضريبي والجمركي ومحاربة الفساد.
تبدأ العملية بإطلاق إشاعات وأخبار مفبركة تضطر معها الجهات الرسمية إلى النفي والوقوف في موقف الدفاع عن النفس. حدث هذا من قبل وكان له دور في إحباط جهود الملاحقة والمكافحة.
عندما تتزايد الاتهامات وتتطاير الأسماء البارزة في فضاء التواصل الاجتماعي، لا يعود المواطن العادي يميز بين الحقيقة والأكاذيب، والهدف المخفي لخلط الأوراق هذا، تصوير المداهمات والملاحقات القضائية بأنها عملية انتقائية تقوم على مبدأ تصفية الحسابات مع شخصيات ومراكز مال وأعمال دون غيرها.
والحقيقة أن الانتقائية دائما ما كانت نقطة الضعف في جهود مكافحة الفساد وفرض سيادة القانون. تنبه اصحاب القرار لهذه الإشكالية وظهر جليا في الفترة الأخيرة أن ما من أحد يحوز على حماية استثنائية.
وبينما كان مطلب الجميع تطبيق القانون بعدالة وإنصاف، يحاول البعض اليوم استعجال نتائج التحقيقات في التهرب الضريبي والجمركي، وكأن المداهمة بحد ذاتها حكم نهائي بتجريم الأشخاص والشركات، بينما هي في الحقيقة خطوة أولى على مسار تحقيقي وقضائي قد يطول لشهور.
قضية الدخان كانت مثالا على استهتار الكثيرين من الطرفين بفكرة العدالة، فقد سارع بعضنا إلى إصدار الأحكام حتى قبل أن تلتئم المحكمة، لكن مسار جلسات المحاكمة بعد ذلك أظهر حقائق ووقائع جديدة ومهمة، ربما تغير انطباعات كثيرة سادت تحت ضغط الحملات الشعبوية.
حاولت الحكومة عبر وسائل الإعلام شرح موقفها حيال ما جرى في الأسابيع الأخيرة، وخرج أكثر من وزير ليوضح الدوافع وراء حملات المداهمة الضريبية، كما قامت هيئة النزاهة ومكافحة الفساد أكثر من مرة بعرض نتائج أعمالها على نحو شفاف، لكن هذه الجهود على أهميتها لا تبدو كافية لمواجهة قوة الإشاعة، وهناك حاجة لمزيد من التواصل مع الجمهور عبر وسائل الإعلام لعرض الحقائق أولا بأول، إلى أن تستقر القناعات بأن ما يدور حاليا ليس مجرد حملات موسمية، بل نهج عمل دائم، فمكافحة التهرب الضريبي عملية مستمرة على مدار السنوات ولا تتوقف عند شركات بعينها أو أشخاص، وتخضع لحسابات مهنية دقيقة استنادا لمعطيات مدروسة، والعبرة في النتائج. المهم أن نمنح السلطات المختصة الوقت الكافي لأداء عملها دون تشويش أو تحريض شعبوي، وترك العدالة تأخذ مجراها.
وقضايا التهرب الضريبي ليست نهاية المطاف، ثمة حاجة لمشروع أعمق لفك الارتباط نهائيا بين السياسة و”البزنس” فقد أرهق هذا الزواج غير المقدس كاهل الدولة، وجعل مؤسسات أدوات طيعة في يد أصحاب المصالح سواء كان ذلك على صعيد التشريع أو التنفيذ.
يتطلب الأمر قرارات سياسية وخطوات تشريعية لتحرير المؤسسات من نفوذ وهيمنة أصحاب المصالح، واستعادة ثقافة رجال الدولة المنزهين من كل اعتبار ومصلحة غير مصلحة الوطن والشعب.
والقضية لا تعني المجالس النيابية فقط، بل الحكومات أيضا.
الغد