ملاحظة: أصحاب الحالات التي اذكرها هي اسماء افتراضية لا علاقة لها بأصحابها على أرض الواقع.
*"طريق الموت"
كلنا قد نمشي طريقاً نعتقد بأنه بداية سعادتنا، فرحنا وابتسامتنا، ولكنه فعلياً يكون بدايةً ل:
شقاؤنا!
تعاستنا!
وأحياناً بدايةً لحياة أخرى كبزخ الموت، أو حياةً نحياها بطريقةٍ مختلفة بعدما سلكنا طريق التعاسة.
كانت المريضةُ "فرح" قد جهزت الهدايا والعطور، البخور والحناء، دهن العود، والعباءات المطرزة، وأعدت حقيبة سفرها وزوجها وابنها، مستعدةً لتقضي اجازة الصيف واياهم بين أهلهم في الأردن، ومفضلةً وزوجها أن يسافروا براً بسيارتهم،وكانت تخطط وأسرتها كيف سيقضون الإجازة، وماذا سيفعلون، وكيف ستحتفل بعيد ميلادها الواحد والثلاثون، وكلٌ كان ينتظرهم بفرح، ولَم يكن أحدٌ ليتصور بأنها بايةُ "اللافرح".
لقد تعرضت الأسرة لحادثٍ مؤلم على الحدود الاردنية السعودية.
نُقلت فرح للمشفى بعد تعرضها لكسورٍ وأضرارٍ صحيةٍ مختلفة، تراقصت على أنحاء جسدها، وتعرضها لغيبوبة أفاقت منها بعد مكوثها لأيامٍ في قسم العناية الحثيثة.
طفلها ابن الأربع سنوات كان ايضاً يعاني الكسور والجروح والندوب في جسده هنا وهناك.
كانت المريضة وطفلها يستعدان لمعاناة أكبر وهي " وفاة الأب لذاك الطفل، الزوج لتلك المريضة".
وفجأةً أصبح الطفل اليتيم، وباتت الزوجة الأرملة.
كان لقائي الأول وأسرة المريضة، والطبيب المعالج لنتفق على تفاصيل خطة التدخل النفسي والاجتماعي مع المريضة.
تدخلي لاعلام فرح بأن زوجها توفي، وأنها الان رغم عدم علمها بوفاة زوجها تقضي ايّام العدة التي قررها أهلها بوضع بطاقةٍ على بوابة المريضة تقضي بمنع دخول غير المحارم لزيارتها، ويراقب أهل الزوج المتوفي ذلك بكل حزم!
كنت دائماً اتسأل: ما هي الفتوة الشرعية لتبدأ فرح عدتها وهي لا تعلم بوفاة زوجها، ورغم أن الفتوة الشرعية كانت عكس ما قرر الأهل إلا أن الثقافة والعادات والتقاليد في مواقف كثيرة تطغا على الدين، وتستغله، وأحياناً تلبس له وتنطق باسمه.
كانت خطتي وفرح والتي مكثت في المشفى لشهور متتالية باتباع جرعات التدرج النفسي واياها في اعطائها خبر وفاة زوجها.
- الجلسة الأولى: ماذا لو علمتي بأن زوجك قد كسرت كلتا قدماه؟
ونمضي جلستنا لتعبر لي فرح عن مشاعرها وما ستفعل.
- الجلسة الثانية: ماذا لو علمتي بأن زوجك قد كسرت كلتا قدماه ويداه ورقبته، وعظام صدره؟
تتغير معالمها وتعابير صوتها، ومشاعرها، مستحضرةً ما تستشعر، وما ستكون عليه.
-ماذا لو فقد زوجك بصره؟
- لو أخبروكي بأنه قد بترت إحدا يداه؟
إلى أن وصلت واياها مواكبةً مراحل تحسنها، وشفاؤها وطفلها، ومتسائلةً واياها عن ردة فعلها اذا ما علمت بأن زوجها قد فقد وعيه وأنه في حالة حرجة ويمكث في قسم العناية الحثيثة؟
التزمت فرح الصمت بعد أن أدركت معطيات الاجابة، وسألتني قائلة: " هل مات زوجي"؟ وكانت اسرتها قد عجت زوايا الغرفة بحضورهم لتجيبها عيونهم، وصوت بكائهم، وعويلهم، وليعزيها الجميع بجملهم التقليدية والتي لطالما سمعناها: " من خلف ما مات، البركة بابنك "!!
وانتهت جلسةٌ كانت فرح قد تجرعت بها جرعات مضاعفة من الحزن، والالم والترح، كانت تلك الجرعة النفسية الأكبر، والتي لطالما أعددت لها وأسرتها ضمن شهور متتالية، تواكبت ومراحل تحسن جسدها وقدرتها على استيعاب الخبر.
المريضة تماثلت للشفاء وابنها ينتظرها في المنزل، واجازة عملها شارفت على الانتهاء، ولظروفها الصحية طلبت تمديدها، لقد غادرت فرح المشفى وهي تفكر بطفلٍ أصبح يتيم، وزوج توفي لتصبح الأرملة،وعمل في الخارج قد تخسره.
كنوعٍ من المتابعة بعد خروج المريضة اتصلت هاتفياً لأطمئن عليها بعد فترةٍ من خروجها من المشفى.
أعلمتني فرح بأنها تزوجت من أخ زوجها، وعادت لعملها الذي كانت تخشى أن تخسره وطفلها.
"فرح مشت طريق الموت، ولكنها قررت أن ترسم طريق عودتها لحياتها كما تشاء"
تحدثت لي خلال تلك المكالمة بالكثير، وكانت قانعة بقرارها ومستأة ممن حولها.
لقد أيقنت بأنها تعافت من أمراضها الجسدية، وبدأت معاناتها من أمراضهم النفسية والاجتماعية.
ولكنها مضت
"أهل مكة أدرى بشعابها"