لا يستطيع أَيُّ عاقلٍ أَن يُنكر سُمو النفس الإِنسانية، وخصوصية وجودها وتميزها عن سائر خلق الله في هذه الحياة، ولهذا خلقها الله عزَّ وجل وكرَّمها عن سائر خلقه، ولهذا أُمرنا أَيضاً باحترام هذه النفس وتكريمها انطلاقاً مِن مبدأ العبودية له سبحانه وتعالى والانصياع لأَوامره ونواهيه، فالمُنطلق الأَهم والأَعلى منزلة في احترام هذه النفس، هو ذلك النابع مِن أَمرٍ وتوجيهٍ رباني لسائر خلقه، والنابع مِن طبيعة العلاقة بين العبد وربِّه في أَول الأَمر وآخره .
يشوب العلاقة بين الخالق والمخلوق في العادة شيء من الجفوة البشرية، تتمثل بالابتعاد عن أوامر الله ونواهيه فيصير الإِنسان مادياً خالصاً، إِلى أَن يتطور الأَمر إِلى عدم الإِقرار والاعتراف بوجود الله مِن الأَصل أَو الشرك به ..!! فما هو المنطلق في هذه الحالة في احترام هذه النفس وإعطائها حقَّها بما يتناسب مع قيمة خلقها ووجودها في هذه الحياة ..؟؟.
حين أَرسل الله عزَّ وجل سيدنا محمد صلَّى الله عليه وسلم، وخَصَّه بنشر رسالة الإِسلام في كافة بقاع الأَرض، كان هناك منطلقات سامية في الجزئية الخاصة باحترام النفس الإِنسانية واعطائها قُدسيتها التي أَرادها الله، فقال تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) وقال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم (لا فضلَ لعربيٍّ على أَعجميٍّ، ولا لأَعجميٍّ على عربي، ولا لأَبيضَ على أَسود، ولا لأَسودَ على أَبيض إلَّا بالتَّقوَى، النَّاسُ مِن آدم، وآدم مِن تراب)، وقال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أُمهاتهم أَحرارا ..!؟) .
فالمُنطلقات الإِسلامية في احترام النفس الإِنسانية وصون كرامتها (بِغَضِّ النظر عن عقيدة هذه النفس أَو جنسيتها أَو لونها)؛ نابعة مِن أَمرٍ إلهي بينَّه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ وقد تغلغل هذا المفهوم في دمِ كل مسلم ملتزم بتعاليم الله عزَّ وجل حتى صارت بمثابة عقيدة له، ولهذا فإِن العلاقة بين الإِنسان المسلم وأَي إِنسان آخر، لا تكون قائمة (بالفِطرة) على لون أَو عرق أَو دين، وما نراه مِن شطحات هُنا هُناك؛ ناجمة عن الفهم المغلوط في عقول زُمرَةٍ مِن الخوارج المُسيئين (بشكلٍ مُمنهج) لهذا الدين قبل أَيّ ديانة أُخرى غيره .
أَما المنطلقات الأُخرى في احترام هذه النفس، وصون حقوقها وكرامتها؛ فقد تأَتت مِن خلال قوانين وضعية صاغها البشر أَنفسهم ..!! مما يعني أَنَّ هذه المُنطلقات وُلدت منقوصة حُكماً، وسيكون الالتزام بها نابعاً مِن الخوف مِن تَبعات القانون الوضعي لا الإلهي، فتبقى حالة النظرة الدونية والازدراء للآخر متغلغلاً في مكنونات النفس لذلك الإِنسان (حتى وإِن بدا الأَمر على نحو مختلف) ..!! ففي أَية لحظة قد تتفجر تلك النفس بحقيقة مكنونها الداخلي تجاه الآخر، فتنشأ الصراعات العرقية والمذهبية وتنفلت دون ضابط لها، ولنا في طريقة مقتل الأَمريكي مِن أَصل أَفريقي (جورج فلويد) على يد أَحد رجال الشرطة ذوي البشرة البيضاء أَقرب مثال على ذلك .
تمثَّل المُنطلق الخاص بحقوق الإنسان عند تلك المجتمعات، مِن خلال الإِعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأُمم المتحدة في سنة (1948)، الذي صدر لغاية صون حقوق الإِنسان وكرامته ..!! ولعل الغريب والمضحك والمبكي في هذا التاريخ أَنه يتزامن وتاريخ السنة التي أُغتصب فيها حق الإِنسان الفلسطيني في أرضه (بترخيص مُبطَّن مِن ذات الجهة) ..!! فَهُجِّرَ منها رغماً عن إِرادته ..!! فَعَن أَي إِعلان حقوق إِنسان نتكلم إِذا ما عرفنا أَنَّ حقَّ وكرامة النفس الإنسانية لا تُجَزأ ولا تقتصر (وفق المفهوم الإلهي) على فئة دون أُخرى أَو إِنسان دون آخر ..!! ودون ذلك؛ فهي لا تعدو عن كونها مفاهيم مُقنَّعة لا تخلو مِن الزيف الفاضح .
جميلٌ أَن نرى ونقرأ ما يحفظ حقّ الإِنسان ويصون كرامته، إِلَّا أَنَّ الأَجمل مِن ذلك أَن يكون المُنطلق نابع مِن ذات الإنسان، لا أَن يكون خاضعاً لخوف مِن عقوبة في قانون، أَو يكون انتقائياً بشكلٍ تغيب عنه روح العدالة والحق والكرامة ..!!.