في هذه الحياة وفي هذا الزمن بالتحديد يستطيع كل إنسان على وجه الأرض أن يُطوّر من نفسه ومن مهاراته ويصقل شخصيته ويُهذّب أخلاقه بالطريقة التي يراها مناسبة ، ومهما كان المحيط الذي ترعرع فيه سلبا أو إيجاباً ، يستطيع الشخص بقرار منه أن يكون مختلفاً منطقياً, فمقولة الشخص وليد بيئته ليست دائماً صحيحة , فكم من شخصٍ ولد في بيئة متواضعة و استطاع الوصول لهدفه وتحقيق حلمه , وكم من شخص ولد في بيئةٍ عنصريةٍ مقيتة ، وتعرّض فيها لكافة أنواع المُضايقات ، إن كانت نفسية أو حتى جسدية ، واستطاع أن يُحافظ على أخلاقه الفطرية بلا تشويه أو تغيير , لذلك في المحصلة إختيار الطريق أو النهج المعمول به هو خيار شخصي بحت قلما تؤثر عليه الظروف المحيطة أو اختبارات الحياة .
عندما نتصفح مواقع التواصل الإجتماعي ، نقرأ أحيانا تعليقاتٍ لأشخاص استحالة ان تكون التربية قد مرّت عليهم ولو لبضعة دقائق حتى , أشخاص يبثّون أحقادهم مُتسترين بغطاء الدين والإيمان , هذه النوعية من النفوس لا تختلف كثيراً عن صورة العدو التقليدي في خيالنا إن لم تكن اسوأ منه حتى، فالعدو يكيد لنا المكائد من خارج حصوننا و نتحضّر له جيداً بحكم كونه عدواً معروفاً لدينا، بينما هؤلاء الأشخاص ينخرون بصمت في بُنيان المجتمع و يدمّرون الأوطان من أعماقها ، وهدفهم ليس الإرشاد كما يدّعون بل هي الفتنة والتفرقة من تُحرّكهم ,هذه الفئة المستهلكة ليست حكراً على دين أو طائفة مُعيّنة , فهم كما أفكارهم لا مرجع لها الا الظلام , ولو كانت هذه الفئة هدفها نشر الفضيلة أو الدعوى نحو النقاش و الحوار، لتبنّت اساليباً اخرى خالية من التجريح و الإساءة في حق الآخرين , فالمسيحي والمسلم في الأردن وجهان لعملة واحدة أساسها حب الوطن و العمل على نهضتهِ ورفعتهِ , وإن تلقّت أيٌّ من الأطراف تعليقات سلبيةٍ عنصريةٍ تهاجم الدين وتستهزئُ من مبادئه ، تبقى الغالبية العُظمى من المجتمع أكثر بياضاً و تسامحاً وحباً لبعضها البعض , فلا يمكننا أبداً التعميم و القول بأنّ الشخص التافه الذي يُصدّر فكره المتطرف على وسائل التواصل الإجتماعي يُعبّر عن رأي الغالبية في وطننا.
على هذه الفئة المظلمة أن تجمع نفسها وتذهب في رحلة إلى كرك العز وترى اللوحة الوطنية الفريدة الملوّنة من تلاحم قلوب أهلها من مسلميين ومسيحيين و تلاحظ كيف إنصهروا في قالب واحد بطريقةٍ يصعبُ بها تمييزهم عن بعضهم البعض ، فالكاهن في الكرك يختارهُ المسلمون ، بينما يُرشّح المسيحيون الشيخ لإستلام منصبه , في الكرك أجمع الناس بقرار منهم على الوحدة تحت راية الوطن الحبيب ، لذلك تُضرب في تماسكهم الحِكم و الأمثال وتصل حكاياهم إلى كل بقاع الارض , وبعد انتهاء زيارتهم الى الكرك انصح هذه الفئة بالتوجه شمالاً إلى السلط وسؤال أحجارها عن حكايات أهلها وضحكاتهم ودمعاتهم التي امتزجت ببذور السلط و غُرست معاً في ترابها الخصب ، وجعلت أشجارها ما إن كبرت تسرد الحكايا البطولية من جيل إلى جيل, بالتأكيد هذه الفئة سوف تُصعق مما ستراه بعد الكرك في السلط ، ولكي أجعل هذه الفئة مصدومة لا تقوى على الكلام ، انصحها على أن تختم جولتها في مأدبا , المدينة التي تتعانق فيها صلوات الكنائس والمساجد معأ في لحنٍ ملحميّ يحوم المدينة في كل يومٍ ويمر من كل الأزقة و يترك فيها صدى حكايات أهلها وتضحياتهم ليسمع في كل حين ,ففي مادبا يضيء المسلمون في الأعياد المجيدة شجرة الميلاد و يُترك للمسيحيون مسؤولية توزيع التمر و الماء للصائمين ساعة الإفطار في رمضان , فمأدبا سُمّيت بمدينة الفسيفساء ليس فقط نسبة للفسيفساء الأثري المكتشف والمصنوع بها ، بل لأن تلاحم أهلها من مختلف التوجهات شكل فيها فسيفساء بشرية زاهية .
وبعد هذه الجولة الفريدة في الاردن إن لم ترغب هذه الفئة بتغيير أفكارها وأسلوب تعاملها ، تكون قد فضلت تجرع السم عن التلذذ بالعسل ، وعندها تترك هذه المهمة للقانون , لأنه يستحيل على العنصري المتطرف بعد أن يرى و يحتك بنسيج أبناء الأردن من كافة المنابت و الأصول أن يبقى على موقفه الأسود المكروه وسط مجتمع متماسك دون أيّ محاولةٍ للتحسين .
التعليقات التي نراها على وسائل التواصل الإجتماعي لا تضر المجتمع فحسب بل تضرّ الدين في أعماقه أيضاً , فالأديان لا تطلب من معتنقيها أن يهاجموا من يختلفوا معهم في الرأي و المعتقد , فإن تعمّقنا و أبحرنا في الأديان نجدها جميعها تحثّ وتدعو للحب و السلام والحِوار , لذلك على معيثي الفساد والفتنة أن يعلموا بأنّ تعليقاتهم السلبية والمسمومة التي يتركونها لمن يختلفوا معهم في التوجهات تضر بالدين الذين يتبعونه أولاً ، وفي كثير من الأحيان تشوّه من صورته قبل ان تُجرّح أو تضر قارئيه , وحتما تكبر مكانة الإنسان وتتعزز فيما لا يقول لا فيما يقول .
في النهاية علينا أن نتعلّم و نتّعظ من تجارب البلدان التي عانت كثيراً من الحروب الأهلية والاقتتالات القائمة على عدم تقبّل الاختلاف والتنوع ، ونحاول قدر المُستطاع أن نحب ونحاور بعضنا البعض في سبيل الفائدة لا القتال , فلا تُحدثني عن دينك كثيراً دعني أراه في أخلاقك وسلوكك , فنحن وحدنا من نختار تذوق السمّ الأسود أو التلذذ بالعسل الصافي .