هناك حديث للمصطفى عن الشعر يقول فيه: "لما نشأت بغضت إلي الأوثان وبغضت إلي الشعر، ولم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء بعدها حتى أكرمني الله برسالته..." أو كما قال. (1)
وهناك حديث آخر منسوب إليه يقول فيه: "إن من الشعر لحكمة" أو كما قال. (2)
وثمة حديث ثالث رواه البخاري عن ابن عمر أن المصطفى قال: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا" أو كما قال. (3)
الأحاديث أعلاه قد تبدو للوهلة الأولى أنها متناقضة، لكن هذا التناقض الظاهري يعود باعتقادي إلى أن الشعر له من الحسنات ما له من السيئات، وأن الشعر يحمل "الخير" في جانب من جوانبه كما يحمل "الشر" في جانب آخر، ذلك أن الشعر مصدره الإنسان، وقد قلت في "الإنسان" ذات مرة أنه مسرح يقف عليه الملاك والشيطان، للتنافس على أدوار البطولة في مسرحية حياته، ولربما كنت مصيبا في قولي، ولربما كنت مخطئا، وإليك الحكم النهائي عزيزي القارئ.
إن المصطفى برأيي كان ينظر إلى "الشيء" فيما هو كائن عليه لا فيما يجب أن يكون عليه؛ مما حدا به إلى معرفة الزمان والمكان المناسبين لكل حديث من أحاديثه، وتَغَيُّر الزمان والمكان كان يستحث حدسه إلى الإدلاء بقول آخر عن "شيء" ما يقول فيه غير ما قال عن "الشيء" نفسه في مرة سابقة كالشعر مثال هذا المقال.
ومن هنا، تجدني أميل إلى تأييد إبن خلدون فيما اجتهد فيه من أن أحاديث المصطفى حول الدنيا وما فيها من "أشياء" هي أحاديث صالحة لزمان ومكان محددين، إذ يخوض الدكتور علي الوردي فيما ذهب إليه ابن خلدون في أطروحته التي قدمها لنيل شهادة الدكتوراة من جامعة تكساس عام (1950) قائلا: "واستعرض ابن خلدون عدة أحاديث للنبي تتناول أمورا دنيوية ومن ثم ضرب ما يمكن أن نسميه أعظم وأخطر ضربة له. وبرأيه أننا ينبغي ألا ننظر إلى تلك الأحاديث على أنها مطلقة وأبدية -أي بما يتجاوز مؤثرات الزمان والمكان. ولم يكن النبي محمد يقصد أن نتبعها بحذافيرها دون أن ننظر في الأسباب الكامنة خلفها. وقال ابن خلدون إننا يجب أن ننظر إلى جميع أقوال النبي وأفعاله عن هذا العالم ضمن إطاره المؤقت والنسبي، ولا فائدة في اتباعها بالصيغة التي هي عليها. وبخلاف الأحاديث الدينية الصرف، فالأحاديث التي تتناول أمور الدنيا لا تصلح إلا للزمان والمكان اللذين قيلت فيهما. وبالتالي لا يحق لأهل الحديث السنة أن يفرضوا ما قام به النبي في سياسة زمنه على سياسة زمننا. باختصار، إن مفهوم الزمان يختلف جدا في نمط تفكير ابن خلدون عن نمط تفكير معاصريه "المثاليين"". (4)
إن عبقرية المصطفى تتجلى من وجهة نظري في براعته بالسير على هدي المثل القائل: "لكل مقام مقال".
و"المقام" من وجهة نظر أتباع مذهب (المثالية) في الفلسفة هو "شيء" له صورة ومادة، وصورته هذه بالنسبة لهم إما أن تكون "جميلة" أو "بشعة"، وإذا كانت الصورة -مثلا لا حصرا- "جميلة" ف"الجمال" هنا بحسب رأيهم مطلق في الزمان والمكان لا تعتريه "البشاعة" قط لا في الماضي ولا في المستقبل، ولا في أي جهة من جهات الأرض الأربع. وعلى النقيض من (المثالية) نجد أتباع (الواقعية النقدية) يتفحصون مادة "المقام"؛ فيجدونها تارة "جميلة" في زمان ومكان معينين، وطورا "بشعة" في زمان ومكان آخرين، ذلك أن مادة "المقام" بالنسبة إليهم لا تبقى على حالها بتغير الظروف من حولها، والمثل يقول: "دوام الحال من المحال".
ولما كان كل إناء ينضح بما فيه؛ وجدنا عبر التاريخ شعراء حكماء يضيئون لنا الدرب بما فاضت به قريحتهم من حكم بليغة وعبر بديعة، وصادفنا شعراء صعاليك ينافقون الخلفاء والأمراء طمعا بجوائز وفيرة أو مناصب كبيرة؛ فما رأينا في شعرهم إلا التزويق اللفظي والتنميق الشكلي مما يبغض الشعر إلى بعض النفوس كنفس المصطفى.
لهذا لا غرو أن أجد المصطفى يبغض الشعر في زمان ومكان معينين، ثم ألقاه يرى في بعض الشعر حكمة في زمان ومكان آخرين، وهو بذلك يختلف عن عمر بن الخطاب ذي النزعة البرغماتية في نظرته للشعر، وقد سبق لي أن حللت العلاقة بينه وبين الشعر في مقال بعنوان (قراءة في أحكام الوردي على العلاقة بين عمر بن الخطاب والشعر) نشر هنا في هذه الزاوية قبل فترة وجيزة.
حواشي المقال:
(1): كتاب (أسطورة الأدب الرفيع)، لمؤلفه د.علي الوردي، شركة دار الوراق للنشر المحدودة، الطبعة الثالثة (2015)، ص(113).
(2)&(3): كتاب (أسطورة الأدب الرفيع)، لمؤلفه د.علي الوردي، شركة دار الوراق للنشر المحدودة، الطبعة الثالثة (2015)، ص(114).
(4): نقرأ في كتاب (نظرية المعرفة عند إبن خلدون، دراسة تحليلية)، لمؤلفه د.علي الوردي، ترجمة د. أنيس عبد الخالق محمود، الطبعة الأولى (2018)، دار الوراق للنشر، ص(103).