تحذيرات أوباما من المستقبل قبيل مغادرته البيت الأبيض، قام الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بالقاء كلمة وداعية في حشد كبير من مؤيديه، في شيكاغو، مدينته التي انطلق منها نحو الرئاسة، كشف فيها عن نظرته المتشائمة لمستقبل البلاد، نتيجة سوء توزيع الثروة واستحواذ 1% من السكان عليها، بينما 99% يعيشون على الفتات، من بينهم هو شخصياً. وقد اعتبر أوباما هذه معضلة تُعرض (مستقبل) البلاد لخطر التفكك، إذا لم تتم معالجتها، مع التوصل إلى (ميثاق إجتماعي جديد). أضاف إلى ذلك مشكلة تفشي العنصرية، والتي تشكل (عامل تفرقة في المجتمع)، ثم اشار إلى فقدان الثقة بالسياسيين، وعزوف الناس المحترمة عن الإشتغال بالسياسة. كما أشار أوباما إلى مخاطر تفكك الإتحاد، وإضعاف روابط الوحدة الداخلية، بعد ما برزت أصوات تنادي بإنفصال بعض الولايات، إثر فوز دونالد ترامب بالرئاسة.
كانت دعوة أوباما واضحة إلى الـ 1% الذين بيدهم الثروة، وطالبهم بتنفيس الإحتقان، عن طريق تحسين ظروف تبعية الفقراء إليهم. والأهم أنه وعد مؤيديه أن يظل حاضراً في المشهد السياسي. لكن أصحاب العقول، في بلاده، لم يتعضوا، من تحذيرات رئيسهم السابق، الذي لم يكن يدور في خُلده، هو نفسه، أن هذا (المستقبل)، الذي تحدث عنه، لم يكن بعيداً.
الغد الذي أصبح حقيقة
فما هي إلا 3 سنوات مضت حتى أصبح الغد، الذي كان يخشاه أوباما، هو اليوم الذي تعيشه البلاد، بعد حادثة خنق رجال شرطة بيض للمواطن الاسود جورج فلويد، في مينيابوس، بولاية مينسوتا. وهو غدٌ وصفه أوباما بدقة في كلمته الوداعية، وكأنه كان يراه بالنظرة الثاقبة للسياسي العارف ببواطن مجتمعه. وما أن انفجرت الاحتجاجات وأعمال الشغب، في طول البلاد وعرضها، حتى كان الرئيس السابق حاضراً في المشهد السياسي، حسب وعده، كرجل الإطفاء، الذي يسارع إلى صب الماء على النار، فيما كان خلفه ترامب يصب الزيت عليها.
الدعوة إلى إستغلال الاحتجاجات سياسياً
فقد تدخل أوباما على الفور، ودعا مؤيديه، (من الجيل الجديد من النشطاء) كما أسماهم، إلى إستغلال زخم الغضب الشعبي وتحويله إلى تحركات سلمية ودائمة لإحداث تحول حقيقي، ما زال يحلم به. وقال انه يتوجب إستخدام ثنائية الاحتجاج والسياسة معاً للوصول الى إصلاح نظام العدالة. مشيراً إلى أن التعصب والظلم ما زالا يشكلان جزءاً كبيراً من الحياة الأمريكية. قال هذا وأكثر في العلن، أما وراء الكواليس، فقد أخذ يتحرك في كل اتجاه نحو السيطرة على الحريق، الآخذ في الإنتشار بسرعة البرق، وهو السياسي الوحيد هناك، الذي ما زال يملك نفوذا شعبياً طاغياً، في كل أرجاء البلاد، كما أن له كلمة مسموعة لدى المؤسسة العسكرية. وهنا التقت إرادة سياسي مخضرم، من وزن أوباما، مع إرادة قادة المؤسسة العسكرية، في وضع حد لتهور الرئيس ترامب، وإحباط مساعيه لدفع البلاد نحو المجهول.
المعالجة السياسية: تهدئة الغضب الشعبي
فمن جهته، ركز أوباما جهوده على معالجة الأمر من الناحية السياسية، فكانت فكرة تعيين مدعي عام يختص بمحاكمة قتلة فلويد. وجاء الإختيار لشخصية من صلب الحزب الديمقراطي أولاً، وسياسي كان نائباً في الكونغرس ثانياً، ثم أسود البشرة ثالثاً، ثم مسلم رابعاً. كل هذه المواصفات التقت في شخص كيث إليسون، فكان تسليمه ملف قضية فلويد خطوة سياسية بارعة أثلجت صدور المحتجين، فهدأ الغضب الشعبي على الفور، وهدأت معه حدة الإحتجاجات، وتوقفت أعمال الشغب والعنف، والسلب والنهب.
المعالجة العسكرية: لجم الرئيس ترامب عن تسيس الجيش
تزامنت جهود أوباما لتهدئة الغضب الشعبي، مع قيام المؤسسة العسكرية، من جهتها، بلجم الرئيس ترامب ووضع حد لتسيس الجيش الأمريكي، وجره إلى مواجهة مع الشعب. فبعد الحركة الاستعراضية، غير الموفقة، التي قام بها ترامب، حين زار كنيسة، مقابل البيت الأبيض، والتقط الصور أمامها رافعاً الإنجيل، انقلب موقف القادة العسكريون منه رأساً على عقب، خاصة أنه اصطحبهم معه، ضمن الحاشية الكبيرة، وهم لم يكونوا يعلمون بغرض الزيارة الحقيقي. وما هي إلا سويعات حتى خرج العسكريون، حاليون وسابقون، قرابة المائة منهم، على وسائل الإعلام معلنين معارضتهم التامة لمحاولة ترامب زج الجيش في السياسة. ثم عقد معه المسئولون العسكريون إجتماعاً حاسماً، في البيت الأبيض، تخلله الصراخ والمشادات، أوضحوا له بكل صراحة عدم وقوفهم الى جانبه في مسعاه، لزج البلاد في حرب أهلية، عن طريق تفعيل قانون التمرد، الذي استعمله الرئيس الجمهوري، إبراهام لينكلولن، عام 1860، وقاد إلى اندلاع أول حرب أهلية شهدتها البلاد.
خلاصة القول: من قضى على أحلام ترامب: فلويد أم العسكر؟
وهكذا كان التقاء إرادة الوسط السياسي المعارض، ممثلاً بالرئيس السابق أوباما، وأذرع الحزب الديمقراطي، من جهة، وموقف قادة المؤسسة العسكرية الأمريكية، من جهة اخرى، كان كفيلاً بوقف الاحتجاجات، وفي ذات الوقت، وقف طغيان ترامب، وحرمانه من استغلال الأضطرابات للفوز بفترة رئاسية ثانية. فمن الذي قضى على أحلامه بأن يكون أحد أباطرة عصره؟ حادثة قتل جورج فلويد خنقاً وتداعياتها؟ أم عسكرة السياسة في أمريكا، وتمرد القادة العسكريين على رئيسهم؟ وهل أصبحوا هم أصحاب الكلمة الأخيرة، في سياسة بلادهم؟