عدم سريان "القوة القاهرة" على العقود في ظل قانون الدفاع
د. جهاد الجراح
07-06-2020 11:55 AM
العقد هو وليد شرعي لتلاقي وتلاقح إرادات حرّة متبصرة بقصد الوصول إلى غرض مشروع ،والأصل أن إرادة الانسان لا يمكن أن تتوجه الّا إلى ما فيه مصلحتها،وبالتالي فإن ما وصل إليه الطرفان المتعاقدان يعني أنهما قد ارتضياه لأنه يحقق مصالحهما ،وهو بسبب ما سبق لا يمكن إلّا أن يكون عادلاً،فكل ما هو عقدي فهو عادل،حيث أن تقدير هذه العدالة يرجع لإرادة المتعاقدين،وعليه فلا يجوز أن يتم العلاقات بين أطراف العقد إلّا من خلال إرادته ،ولذا لابد من إزاحة أي عقبة أمام حرية الإرادة،ومن هنا ظهر مبدأ "دعه يعمل دعه يمر" والذي يعني في ذات الوقت دعه يتعاقد بلا قيود.ووفقاً لما سبق فإن التنظيم التشريعي للتعاقد لا يمكن إلّا أن يكون مكملاً لإرادة المتعاقدين وليس مقيّداً لها وأنه من غير المقبول أن يتم تحديد العدالة والتوازن في العقود من خارج إطار التعاقد ، فالتعاقد ذاته ومن خلال مبدأ العرض والطلب هو الذي يحقق توازنه الذاتي .
الّا أنه اذا صح ما سبق ، فإن هذه الصحّة مشروطة ببقاء التوازن العقدي في العدالة بين الطرفين وفقا للظروف التي تم فيها التعاقد،أي بقاء ما كان على ما كان،خصوصاً في العقود الزمنية أو الفورية المؤجلة التنفيذ ، إذ لو كان يعلم أي من طرفي العقد أن العقد لن يكون عادلاً لمصلحته إذا تغيرت الظروف المستقبلية،فإنه بالتأكيد كان لن يقدم على مثل هذا التعاقد الخاسر، وعليه يعد رضاء المتعاقدين مقيّداً بهذا الشرط الضمني أثناء تنفيذ العقد ، حتى لا يحصل إخلال يحول دون تحقيق العقد للغاية التي يرجوها كلّ من المتعاقدين ،لذا جاء دور المشرّع ليتدخل إستثناءً في كل ما من شأنه أن يخلّ بالمعادلة السابقة لإعادة التوازن للمراكز القانونية للمتعاقدين ، حيث تعددت الاستثناءات في هذا المجال ، وفي سياق موضوعنا الذي نعالجه فإن أهم استثنائين هما:
الإستثناء الأول : حالة الظروف الطارئة : حيث نص المشرّع الأردني عليها في المادة 205 من القانون المدني ، ومضمونها أنه إذا تراخى تنفيذ العقد،بحيث مضى وقت بين انعقاده وتنفيذه،ويكون ذلك عادة في العقود مستمرة التنفيذ كعقد الإيجار ، وقد يكون أيضا في العقود فورية التنفيذ إذا كانت مؤجلة التنفيذ ، ووقع أثناء ذلك حادث إستثنائي عام غير متوقع الحصول عند إبرام العقد وأن يكون هذا الحادث مما لا يمكن تفاديه، بحيث يكون من شأنه أن يجعل تنفيذ إلتزام المدين مرهقا له ويهدده بخسارة فادحة لو أجبر على التنفيذ،عندها أعطى المشرّع سلطة تقديرية واسعة للقاضي عند عرض النزاع عليه أن يوازن بين مصلحة الدائن والمدين وأن يرد الإلتزام المرهق إلى الحدّ المعقول ، والمقصود بذلك أن القاضي يقوم بالتقريب بين إلتزامات المتعاقدين بحيث يلتقيان في منتصف الطريق ويتقاسما الخسارة وفقا لما تقتضيه العدالة ، وكما أن هذا يقتضي بالطبع أن يكون تنفيذ التزام المدين ما زال ممكناً رغم حدوث الظرف الطارئ وليس مستحيلاً ، وهذه المسألة هي التي تدفعنا إلى القول أن العقود المستهدفة في موضوع دراستنا هذه سواء المستمرة التنفيذ أو الفورية إذا كانت مؤجلة التنفيذ لا ينطبق عليهما هذا الشرط (شرط الإمكان) ، لأن هذه العقود وخلال فترة الحظركانت غير ممكنة التنفيذ ، فكيف للقاضي أن يُنقص من التزامات المدين(أي يجعله يقوم بالتنفيذ الجزئي)خلال فترة الحظر التي تثور حولها التساؤلات - أمّا بعد الحظر ولو بقي قانون الدّفاع سارياً ، فيطبق عليها قاعدة : إذا زال المانع عاد الممنوع - والتي كان فيها مرفق القضاء أصلاً معطلاً ؟
وكل هذا يدفعنا للقول أن نظرية الظروف الطارئة لا يمكن تطبيقها في هذا المقام.
الإستثناء الثاني : حالة القوة القاهرة : حيث نص عليها المشرّع الأردني في المادة 247 من القانون المدني، ومضمون هذه الحالة أن تنفيذ الإلتزام أصبح مستحيل التنفيذ نتيجة سبب أجنبي- كالقوة القاهرة– خارج عن إرادة المدين وأنه من نتيجة ذلك : انفساخ العقد من تلقاء نفسه وبقوة القانون و إنقضاء إلتزامات المتعاقدين المتقابلة وزواله بأثر رجعي يستند إلى وقت إبرام العقد ، وهذا في ما يتعلق بالإستحالة الكلّية لتنفيذ الإلتزام ، إلّا أن الإستحالة قد تكون جزئية أو وقتية للإلتزام وخصوصاً في العقود المستمرة كعقود الإيجار لمكاتب المحامين و عيادات الأطباء الخاصة والتجار الممنوعين من ممارسة أعمالهم أثناء مدة الحظر ، وكذلك عقود تأمين المركبات غير المصرّح لها بالتنقل ، ففي مثل هذه الحالات وما شابهها يصبح تنفيذ مثل هذه العقود غير ممكن جزئيا أو وقتياً ، وأن الأثر القانوني الذي رتّبه المشرّع على الإستحالة الجزئية أو الوقتية هو: ليس إنفساخ العقد بقوة القانون وإنما انقضاء الإلتزام بحدود ما يقابل الجزء المستحيل ، كما أنه يجوز للدائن فسخ العقد بشرط إعلام المدين بذلك .
ومرّة أخرى نرى أن حالة القوة القاهرة - كما سابقتها حالة الظروف الطارئة - لا يمكن تطبيقها على العقود التي عُطّلت أثناء فترة الحظر ، ذلك أنه في ظل سريان قانون الدفاع فإن أحكامه توقف العمل بأيّ نص أو تشريع يخالف أي حكم من أحكام هذا القانون ( المادة 10 من قانون الدفاع ) ، ولأن نص المادة 11 من قانون الدفاع ذاته تتعارض في الأحكام والآثار القانونية مع نص المادتين 205 ، 247 من القانون المدني ، ذلك أنه وباعتبار قانون الدفاع قانوناً خاصاً ، والخاص يقيّد العام وهو الأولى بالتطبيق،حيث يقرر اعتبار العقود برمّتها والإلتزامات كجزء منها والتي تعذّر تنفيذها ، موقوفة إلى المدى الذي يكون فيه تنفيذ الإلتزام متعذراً ، والوقف المقصود هنا ليس الوقف على الإجازة كمرتبة من مراتب العقد - كما ذهب البعض – و إنما التوقف الزمني بصورة مؤقتة ( تجميد )وإدخال هذه العقود والإلتزامات في حالة سبات قانوني خلال فترة الحظر دون المساس بالوجود القانوني للعقد ، ومعنى هذا أنه لا يستحق لأي من المتعاقدين أي حق في ذمّة الآخر وبقوّة القانون ، لتعود تلك الإلتزامات إلى السريان مجدداً بعد زوال الحظر وبقوّة القانون أيضاً.
ونخلص مما سبق أنه في هذه الحالة لا مجال للموازنة بين مصلحة الطرفين إستناداً لحالة الظروف الطارئة ؛ حيث لا سلطة تقديرية للقضاء ، كما أن العقد لا ينفسخ لا بقوّة القانون ولا بإرادة الأطراف طبقاً لحالة القوّة القاهرة ، وإنما وقف وتجميد للعقد وإلتزامات الأطراف خلال المدة التي يكون فيه تنفيذ العقد متعذّراً ( مدّة الحظر ) .
"ربّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات "