صعود الصين وانتقال القوة من الغرب إلى الشرق
د. فيصل الغويين
07-06-2020 10:44 AM
استندت الصدارة الأوروبية بداية من عصر النهضة، للطفرة التكنولوجية والاقتصادية التي صاحبت الثورة الصناعية، واعتمدت على سياسات التوسع والاستعمار لتأمين الموارد اللازمة لعمليات الانتاج واسع النطاق، والهيمنة على الأسواق، واتجهت الدول الرأسمالية لتطوير قدراتها العسكرية في خضم التنافس الدولي على تقاسم المستعمرات.
وأدى احتدام الصراع بين القوى الأوروبية لتفجر حربين عالميتين، أدتا لتفكك وانهيار دول عديدة في القارة الأوروبية، وصعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في خضم الثنائية القطبية.
كان النظام الدولي الذي تأسس عقب نهاية الحرب العالمية الثانية صنيعة الدول الغربية؛ إذ أن المؤسسات الدولية، وآليات صنع القرار التي تم استخدامها في اطار هذا النظام كانت بمنزلة محاكاة لنماذج المؤسسات والقواعد السائدة في الدول الغربية، وتحديدا في الولايات المتحدة.
1
بدأ نهوض الولايات المتحدة كقوة عالمية مهيمنة في أوائل القرن العشرين عندما أصبحت أكبر اقتصاد في العالم، وبعد أن أدت دورا حاسما في تحديد نتيجة الحرب العالمية الأولى، ووفرت القوة الاقتصادية والعسكرية الجذرية لهزيمة دول المحور في الحرب العالمية الثانية، برزت باعتبارها المنتصر، وجرى الاعتراف بها كقوة رائدة في العالم.
وتمكنت بعد الحرب من إدارة التحول الدولي، وتأسيس منظمات النظام العالمي، فكانت اتفاقية (بريتون وودز) التي نشأ عنها اعتماد الدولار الأمريكي كعملة احتياط عالمي، كما أنشأت سلسلة من الأحلاف العسكرية الاقليمية كحلف شمال الأطلسي، فتنامي الدور الأمريكي ليصبح أكثر هيمنة.
قدمت الولايات المتحدة نموذجا عالميا يقوم على الديمقراطية والمؤسسية، والفصل بين السلطات، والرقابة المتبادلة بين المؤسسات، وقيم الحرية والفردية، والمبادرة على المستوى السياسي، والليبرالية والرأسمالية وآليات السوق الحر على المستوى الاقتصادي. ورأت الدول الغربية أن قيم هذا النموذج عالمية وقابلة للتطبيق في كافة دول العالم.
2
وفي عام 1949 أصبح الاتحاد السوفييتي القوة النووية الثانية، وتأـسست جمهورية الصين الشعبية بعد انتصار الثورة الشيوعية بقيادة ماو تسي تونغ، حيث فرضت الحرب الباردة ظلالها على بنية النظام العالمي، من خلال الصراع بين أيديولوجيتين بخطط تنافسية لتنظيم الشأن الاقتصادي والسياسي، فكان كل صراع سياسي وعسكري في العالم مرهون بهذا الصراع الأكبر.
ونظرا لعدم قدرة الاتحاد السوفييتي على المنافسة الاقتصادية مع القوة الاقتصادية الأمريكية، واخفاقه في تكييف اقتصاده الموجه مع المراحل الأولى لثورة المعلومات، فقد انهار من مركزه وتفكك مع انهيار جدار برلين 1989، فاختفى منافس أيديولوجي خطير للنظام الرأسمالي.
3
ترتب على ذلك وصول الهيمنة الأمريكية في العالم إلى ذروتها، حيث انتشر النموذج الرأسمالي الديمقراطي على نطاق واسع، مما دفع المفكر الأمريكي فوكوياما إلى التكهن بأن العالم يشهد “انتهاء التاريح”، بما يعني أنه لم يعد هناك احتمال لظهور تحد للنموذج الرأسمالي بشقيه السياسي والاقتصادي.
ويمكن اعتبار المرحلة التي عرفها النظام الدولي بعد نهاية الحرب الباردة بأنها مرحلة انتقالية قصيرة كان للولايات المتحدة فيها الدور الأول المؤثر عالميا، مقارنة ببقية القوى العظمى التي عرفها التاريخ، فالتطورالمتسارع للتكنولوجيا والفضاءات المفتوحة التي وفرتها وسائل الاتصال، إضافة إلى التداخل الاقتصادي والتجاري بين الدول والشركات في العالم، أسهمت في الدفع بعجلة التنمية عبر دول العالم بشكل سريع، محدثة أكبر وأسرع ثورة تنموية شهدها التاريخ، احتضنتها دول شرق وجنوب شرق آسيا.
4
واجهت القيادة الأمريكية للنظام الدولي، جملة من التحديات مع صعود قوى دولية جديدة، لا سيما الصين وروسيا ، وهو الأمر الذي فرض حالة من الجدل حول مستقبل القيادة الأمريكية، فعلى الرغم من التسليم بأن الولايات المتحدة لا تزال هي القوة المهيمنة على النظام الدولي، فإن طبيعة وحجم التغيرات والتحولات التي يشهدها النظام الدولي تشير إلى تراجع الدور الأمريكي عالميا.
هناك العديد من الظواهر والأسباب الداخلية والخارجية التي ترجح فرضية التراجع النسبي على الأقل للهيمنة الأمريكية، وتهدد قدرة الولايات المتحدة على الاستمرار في قيادة العالم، من أهمها:
1- فقدان الثقة العالمي في القيادة الأمريكية للعالم وخاصة منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، التي نتج عنها تصاعد حجم الدين الأمريكي، الذي يهدد بالخروج عن السيطرة، والعجز المالي الكبير، وتراجع الثقة في الدولار الأمريكي.
2- التورط الأمريكي في حروب ونزاعات عديدة عبر العالم، بغية تثبيت وضع الهيمنة، وتحقيق مشروع القرن الأمريكي، والتي أثبتت حدود القوة الأمريكية.
3- تدهور النظام السياسي الأمريكي؛ فالكونغرس الذي يجسد الهيئات التشريعية المنتخبة أصبح عاجزا عن تمرير قوانين من دون الحصول على إذن من مجموعات الضغط التابعة للشركات التي تتحكم في عمليات تمويل حملاتها الانتخابية، التي أصبحت عمليا هي المتحكم في عملية صياغة القوانين، مما أسهم في هيمنة الثروة وسلطة الشركات، وتقليص دور الحكومة ، حيث اتسعت عمليات خصخصة المدارس والمستشفيات ومؤسسات المياه والكهرباء والطرق والمطارات، وغيرها من الوظائف الأساسية التي كانت تدار عن طريق الحكومات المنتخبة وتحولت إلى الشركات.
4- تنامي ظاهرة الانقسام الحزبي الحاد بين الديمقراطيين والجمهوريين، واعتماد كلا الحزبين على جماعات الضغط التجارية من أجل الحصول على التمويل المالي خلال الانتخابات. وقد ترتب على ذلك نمو الوعي لدى الأغلبية من الأمريكيين بأن الرأسمالية الديمقراطية بشكلها الحالي تؤدي إلى خلل في توزيع الثروة لا يمكن احتماله. فكلما زادت سيطرة مصالح الأثرياء على صنع القرار زادت قدرتهم على التأثير في القرارات التي تعزز ثروتهم وسلطتهم، حتى وإن كانت هناك أغلبية كبيرة من الشعب الأمريكي تعارض ذلك.
5
ومع تضاعف المعرفة والقوة الاقتصادية وانتشارها السريع، يمر التوازن السياسي في العالم بمرحلة تغيير هائلة لم يسبق لها مثيل منذ عدة قرون، فمثلما أدت الثورة الصناعية إلى هيمنة أوروبا الغربية والولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي، فإن ملامح تفوق الصين على الولايات المتحدة كمركز ثقل الاقتصاد العالمي، يمكن أن يشكل بداية نهاية مرحلة القيادة التي تمتعت بها أمريكا على مدى أكثر من قرن، واكتمال دورة مدتها خمسة قرون من التاريخ الاقتصادي. مما يعني أن العالم على أبواب حدوث أكبر تحول استراتيجي تعرفه العلاقات الدولية منذ أمد بعيد، بما اصطلح على تسميته بانتقال القوة نحو الشرق، وما سيرافق ذلك من تحولات هيكلية، من شأنها تغيير الخريطة الجيوبوليتيكية في العالم.
6
يعد الصعود العالمي للصين عملية تاريخية ممتدة تستند لأسس حضارية وثقافية عميقة الجذور لا يمكن اختزالها في الصدارة الاقتصادية الراهنة للصين فقط، حيث ارتبطت الهيمنة الصينية بتمدد الامبراطورية الصينية التي تأسست عام 221 ق. م. وعلى الرغم من أن التاريخ الامبراطوري للصين انطوى على صراعات داخلية واقليمية أدت لتقويض فاعلية الهيمنة الصينية، فإن الروابط الثقافية والحضارية بين الصين ودول الجوار في آسيا، أضحت من أهم المقومات الداعمة للعلاقات الصينية بدول جنوب وجنوب شرق آسيا، لا سيما وأن إرث الاستعمار الغربي في القارة الآسيوية، أدى لوصم الانخراط الغربي في الوعي الجمعي للشعوب الآسيوية بمحاولة فرض الهيمنة والاستنزاف الاقتصادي.
فمنذ حرب الأفيون الأولى (1839 - 1842) اعتمدت علاقات الصين بالدول الغربية على مجموعة اتفاقيات اذعان، تقوم على منح امتيازات تجارية وسياسية لعدد من الدول الأوروبية بالتوازي مع دور الدول الأوروبية واليابان في تأجيج الصراعات الأهلية، والنزعات الانفصالية داخل الصين منذ مطلع القرن العشرين، بحيث لم تتكون حكومة موحدة في الصين سوى عقب انتصار الشيوعيين في الحرب الأهلية 1949، ومن ثم ترسخت قيمتان مركزيتان في الإدراك الصيني، هما الخوف من الفوضى، وكراهية الاستغلال والتدخل الأجنبي.
7
وخلال مرحلة حكم ماوتسي تونج، بدأت مرحلة التصنيع للتخلص من التبعية للدول الغربية، وتأسيس نظام مستقل اقتصاديا عن الرأسمالية العالمية. ومع نهاية السبعينيات تحققت الطفرة الاقتصادية بعد تبني (دينج زياو بينج) نموذج يقوم على تحرير الاقتصاد من قبضة الدولة بصورة نسبية، وتفعيل اقتصاد السوق، والتصنيع من أجل التصدير. فتمكنت الصين من صناعة نموذج للحداثة يستند إلى مفاهيم وقيم مختلفة.
وتؤكد المؤشرات أن الصين بدأت في السنوات الأخيرة السعي لاحداث تغيير تدريجي في بنية النظام الدولي دون الدخول في صدام مباشر مع الولايات المتحدة، مع استعدادها لذلك، ومن هذه المؤشرات:
1- تأسيس البنك الآسيوي لاستثمارات البنية التحتية، الذي يعد بمنزلة إطار مؤسسي بديل للمؤسسات الاقتصادية الدولية، خاصة صندوق النقد والبنك الدوليين، في ظل هيمنة الولايات المتحدة والدول الغربية على عملية التصويت بهذه المؤسسات.
2-قيام الصين بالاعتماد على اليوان الصيني في التعاملات الخارجية بدلا من الدولار، والسعي لتحويله لعملة احتياطي نقدي عالمي.
3- الشروع في تنفيذ مشروع طريق الحرير الجديد بمساراته البرية والبحرية.
4- تأسيس شبكة انترنت مستقلة عن الشبكة العالمية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة.
5-رفع الانفاق العسكري، والتنسيق مع منظمة شنغهاي للتعاون التي قد تسعى الصين لتحويلها لتحالف عسكري مستقبلا في مواجهة تمدد حلف الناتو في محيطها.
8
لم تعد الصدارة الصينية للنظام العالمي مجرد سيناريو افتراضي بقدر كونه واقعا قيد التشكل يتجاوز المنظورات الأحادية التي تهيمن على رؤى الدول الغربية للعالم، حيث بدأت عملية انتقال مركز الثقل العالمي على المستوى الاقتصادي والحضاري والثقافي من الغرب إلى الصين، عبر عملية ممتدة لانتقال القوة، تمكنت خلالها الصين من استعادة مكانتها العالمية كقوة عظمى.
وهكذا تحول القرن الحادي والعشرين ليصبح قرن آسيا كما تنبأ الكثيرون، حيث تمثل الصين القلب من آسيا التي تتزايد قوة وثراء، ولذلك تشهد منطقة شرق آسيا الآن قوتين عظميين متنافستين ليس من المحتمل أن تكونا شريكين استراتيجيين، هما الصين والولايات المتحدة، وهو تنافس شبيه بطبيعة العلاقات الأمريكية السوفييتيىة أثناء الحرب الباردة، حيث الصراع بين قوة بحرية عظمى وقوة برية كبرى.
قاربت الصين أن تصبح ندا للولايات المتحدة من حيث اجمالي الناتج الاقتصادي، وبات متوقعا خلال العقد القادم أن تظهر في صورة أضخم
اقتصاد لأمة واحدة في العالم، وبينما ستحتفظ الولايات المتحدة بقوتها إلا أنها ستكون أضعف نسبيا، وستحتل مستقبلا موقعا متخلفا وراء الصين في مختلف المجالات.