إلى خالد الكركي عاشق الكرامة والشهادة والعربية
أ.د. خليل الرفوع
07-06-2020 09:04 AM
إلى ذاك الفتى الذي نبت في حقول غضب الهَيَّة، واستوى في قلعتها عربيَّ اللسان، قريبا من ذات السلاسل وحدِّ الدقيق وباب الواد ومآذن عمان والقدس، تزمّلَ مؤتةَ الغزوةَ والتاريخَ والنصرَ والرسيسَ ذات سنين شداد، ولبث في ربيع مِحْنَةَ من عمره صباحاتٍ بيضًا يرتل على أرواح الشهداء آيات التنزيل وتراتيل الفجر والضحى والليل وما سجى ، إليه انحناءت اللسان من أخمص أعاريضه إلى انتهاءات قوافيه، ومن حدود الجوف إلى انطباق الشفاه لذةً للسائلين ، من السنابل تعلمتَ اشتهاءَ الأرض للندى ، ومن اللغة وفيها كتبتَ على مدادك رهبانيةَ اللسان قانتةً قديسةً ، وفروسيةَ القول جامحةً شموسًا ، فكانتا سيفا خالديًّا يمضي في جسد اللغة عارضًا ممطرا بيانا وسحرا، وفي رُوْحِها سريتَ غمامًا يقطر عشقا مصفّى، يا ابن الدوالي وسياج الياسمين والتين والزيتون والبلد الأمين ، يا أيها القائل وقوفًا أيها الأردنيون لكرامة فتية انتزعوها من جذور الشمس انتزاعا وساروا بها في معارجِ البطولة ابتهاجا وقد نَهَلَتْ قواضبهم من الدماء وعَلّتِ، كم غدوتَ تبوِّئُ للرفاق مقاعدَ للتأويل ومضاربَ لفتوحات المعاني البِكْر ، وفي صوتك صدْحُ الشعر وصداه، وفي نواشر معصميك مراجعُ وشمِ العروبة ووشيِ غرتها البهيّ، وقد نادى الصهيل ألا يا خيل الله كُرِّي نفِّسي عن رجاليا، ولم تسندْ ظهرك إلا إلى شيحان والشراة والشامخات من الذرا وتلك السبعة الصاعدة إلى زرقة الغيم في عمان الصخرة والتاج والراية والقول الفصل.
كيف للشعر أن ينثركَ أدبا أم كيف للنثر أن ينشدك شعرا، أو ليس في فصول الشعر وغايات النثر نهاياتٌ للعاشق والمعشوق، كيف وقد نثرتَ الوطن على الجباه قناديلَ من جمر الشهادة ، ورمى بك اللهُ في نهارات الكرامة فعلمتَ وذقتَ طعم النصر وما كان حديثك عنها مُرَجّمًا، بل في غرفاتها ناديت مع أبي تمام نداء خفيًّا : أي بَني قومي لا غالب إلا الله، قاصدينِ كلَّ الشهداء بِرًّا ورثاء ووفاء:
وقد كان فوتُ الموتِ سهلا فردّه
إليه الحِفاظُ المرُّ والخُلُق الوعرُ
ونفسٌ تعافُ العارَ حتى كأنه
هو الكفرُ يومَ الرَّوعِ أو دونه الكفرُ
أما وقد ناديت وأسمعتَ خِلالًا سنّها الشعر ليدري بغاةُ العلا من أين تؤتى المكارمُ، فإن الأردني لغير الله ما خفق فؤاده صبرا وتبتلا ، ولا لغير الكرامة سَلَّ سيفه سما ناقعا ، ولا لغير أسوار القدس ثقّفَ رمحه نصلا صارما ، وإذا قيل مَنْ فتًى : كان هو المطرَ الصّيِّبَ تصليةً وعذابا، واللظى النزاعة للشَّوى ، يتوقد كرأس الحية غضبا وعلقما، وكان هو الرجولةَ عُصْبةً وغصّة ونسبا وشهادة وقد أشاحت عن وجهه خيولُ ذوي القربى والآخرين المواليا، ومن بعدُ كانوا هم الفتية الشهداء جند الله الذين وُلِدُوا على صهوات الجرد الجياد وقد بلَّ النحيعُ نحورَها فشالت تشوالَ العقارب بالقنا يبيدون عداوات البغاة الشقيِّينَ، هم شركاء المنايا يلاقونها كالحاتٍ وبُسّلا، فلا مات مظلوم ولا عاش ظالم ، ينشدون مع أبي الطيب :
يهونُ علينا أن تصابَ جسومُنا
وتسلم أعراضٌ لنا وعقولٌ
هم العارفون أنهم إلى ربهم صاعدون وقد اشتهت رياض الجنة ان تكون مثوًى لهم فصافحتهم حورُوها والمقصورات لهم في الخيام :
بُشْراكمُ اليومَ نورًا تمشون فيه ؛ وهم الذوائب والغلاصم والقواصم وسُرْبة أودية الموجب والحسا والغور واللطرون ، يحملون على أسنمة أرواحهم وطنا محميا بدمائهم ووقع حرابهم في عدو لن يكون إلا كما أرادونا له قدرا وموتا ، طالعين له طلوع المنون ، مكبرين فرحين سيهزم الجمع ويولُّون الدُّبُر ، وما صبح الكرامة ببعيد، أليس هنا بين مؤتة واليرموك نواصي الخيل وآثار سنابكها ورباطها وسرجها ولجامها،أليست أنفاس الشهداء هنا تختلط بصليل سيوف الأردنيين حدةً أمويةً وغضبًا مُضَريًّا ؛ فتسمو إذا الحرب نالتها مخالبُها والأعداء الذين جيء بهم لفيفًا مقرونين ومفروقين من أظفارها خاشعون ، ولا زال الموت مُكْتَنِعًا يُطِلُّ بساحاتهم كأنياب أغوال أو كطير أبابيل ينتظر مناجاة الغردق في كل حين .
صعب هو الكلام على الكلام، ولي أن أقول : يا أيها الكركي ألا أنْعِمْ بيانا وشعرا ففي حروفك بهاء العربية آخذة بتباشير الصباح وتلبيات الربع حيث تريد أوراقك العربية أن تكون حرةً فاقعا بَرْدُها وضَبْحُها وقَدْحُها وجَمْعُها ؛ فلقد كثر نقع العواصف والقواصف وما في الميدان إلا عاديات ترى خلفها الحُّوَّ الجيادَ تواليَا، وذِمارُ الحيّ أخنى عليها الذي أخنى على لُبَد ولُبيد وسعد وسُعيد ، وما في دار الندوة إلا وِلْدان خَلَّدوا ألسنتهم بأشباه قلائد السُليك بن السُّلكة وصدأِ جُمان الراعي النميري، وقد سرقوا صواع الأمة وشروه في سوق بني الأصفر ومعه بيعوا بأحمالهم وأثقالهم فلم يزنوا مثقال حبة من خردل أو قَفِيز ودرهم، ولقد نفَشَتْ في بيدر العربية صحائف المؤلفة قلوبهم من عتقاء العجمة فعَلَوا ظهورَ خير المطايا وما زال سيرُهم خبطَ عشواءَ بكرة وعشيّا وما تورارَوا بعدُ بالحجاب ، فلغير أوتاركَ ما طرب الخيال يا وريث القول الثقيل والشهي المشتهى من أم الكتاب ، فلك في أبي تمام والمتنبي - سادة الكلام - حسنُ صحابةٍ وأحاديثُ باقيةٌ هي العروة الوثقى من عهد الملك الضِّلِّيل امرئ القيس الكندي اليماني حتى الفتى الجنوبي أمل دنقل، آهٍ من لفح اليمن ونفح الجنوب ونواطير مصر وتجاعيد الزمن المر وغَلَسِ العتم وذُؤبان التيه وحِراب الروم وزَمزمة المجوس ورويبضة النظم وزِعنفة الشعر ، طبت أبا عبد الله مُضَمَّخًا بزعفران الشمّاخ ؤأقحوان وادي الشتا وأحزان الفتى الطَّفِيلي وناي حبيب العالوك وشميم عرار أبي وصفي؛ فما بعد العشيةِ والسُّرى من عرار.
أستاذ الأدب العربي بجامعة مؤتة