أسطوغرافية الارهاب بين "إسكات الماضي والبوح المتأخر"
سعود الشرفات
06-06-2020 09:52 PM
تعني الأسطوغرافية باختصارٍ شديد " التأريخ ، وكتابة التاريخ . يقول المؤرخ قسطنطين زريق أن مفهوم (التأريخ " (بالهمز) يُطلق على دراسة الماضي، والسعي لإدراك الماضي البشري وإحيائه، والتاريخ (بالألف اللينة)على الماضي ذاته الذي هو موضوع هذا الدراسة) خاصة كتابة التاريخ على أساس علمي بالفحص النقدي للمصادر ، واختيار تفاصيل معينة من المواد الأصيلة في تلك المصادر ، وتوليف تلك التفاصيل في السرد الذي يقف أمام اختبار الفحص النقدي.
كذلك يشير مفهوم التأريخ إلى نظرية وتاريخ الكتابة التاريخية حيث يهدف المؤرخون الحديثون إلى إعادة بناء سجل للأنشطة البشرية، وتحقيق فهم أعمق لها. والتاريخ هو (عملية تفاعل مستمرة بين المؤرخ وحقائقه، وحوار لا ينتهي بين الحاضر والماضي).
وهو عند المؤرخ ميشيل –رولف تريو(Michel-Rolph Trouillot) كما جاء في كتابه الشهير (إسكات الماضي : القوة وإنتاج التاريخي) "حكاية عن أحداث وشخصيات يرويها الناس العاديون وأيضًا المتخصصون في سياق اجتماعي وسياسي مرتبط بعلاقات قوة تنظم وتحدد ما يمكن أن يُحكى أو لا يُحكى في لحظة تاريخية معينة. من يحكي القصة؟ ولماذا ومتى؟ ولماذا تسود قصة وتتوارى قصة أخرى؟
لكن هذا التاريخ كما يقول المؤرخ المغربي مالك بن نبي "ليس ما تصنعه الصدف ولا مكائد الاستعمار، ولكن ما تصنعه الشعوب ذاتها في أوطانها".
وتعني كلمة تاريخ في الاستعمال العامي كلاً من وقائع الأمر وحكي هذه الوقائع، أي أنها تعني "ماذا حدث"، و"ما قيل انه حدث". وهنا يركز المعنى الأول على العملية الاجتماعية التاريخية، والثاني على معرفتنا بهذه العملية، أو على رواية قصة عنها".
وفي هذه الأجواء المظلمة يولد ما أطلق عليه (تريو) "إسكات الماضي “والتلاعب به من خلال أطراف فاعلة تملك القوة لإنتاج التاريخ والروايات التأريخية، (وإنتاج حكايات بديلة مع الخلق المزدوج للوقائع والمصادر).
هناك جانب أخطر وأكثر فظاعة من إسكات التاريخ والماضي، يتمثل حسب اعتقادي بطمس التاريخ وإزالته نهائياً إلا ما تبقى في الذاكرة الجمعّية أو الروايات الشفوية. مثال ذلك أن ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطانية 1921 "أمر باستخدام الغاز السام ضد "القبائل غير المتحضرة، أي القبائل الأفغانية والكردية بحجة أن ذلك يتسبب كما قال بـــــ"إرهاب قوي وفعال وسينتج عنه الحفاظ على حياة البريطانيين. ثم قامت الحكومة البريطانية بإزالة كافة الوثائق المتصلة بهذه الواقعة من الأرشيف القومي .وهو ما أدى الى طمس تاريخ تلك الأحداث"
أن فعل الإسكات العميق والخطير هذا، يتغلغل في تأريخ الأردن بشكل عام، ويتجلى كثيراً بما "قيل أنه حدث" فيما يخص ظاهرة الإرهاب والعمليات الإرهابية, أهدافها وأسبابها، ودوافعها، والمنفذين لها، وأثارها على بنية وسلوك الدولة.
لقد كشف لنا البحث العلمي المحايد لتأريخ الإرهاب في الأردن في هذا أنّ فعل "إسكات الماضي"، ثم "إسكات البوح المتأخر" (عندما يتراجع بعض الفاعلين في التاريخ عن أقوال وأفعال ثبت لهم عدم صحتها فتراجعوا عنها وحاولوا تصحيحها) وسيطرة الرواية الاستعمارية والاستشراقية للتأريخ في الأردن كانت سبب الرئيس في ظهور الإرهاب المعاصر في الأردن.
إنّ عملية "مساءلة التاريخ" بحثاً عن مصداقية التأريخ تثبيت لنا أن الإرهاب في الأردن في جُله الأعظم لم يكن على يد أعداء أجانب وغرباء بل على العكس على يد/ أو بواسطة عرب ومسلمين، ونتاج عقود طويلة من الصراع السياسي والديني والمذهبي يمتد عميقٍ في تاريخ الأمة العربية والإسلامية ،تركز على معارضة ومنافسة لرسالة الهاشميين في وحدة الأمة العربية بشكلٍ أساسي ،خاصة بعد الثورة العربية الكبرى 1916م، ثم برز في العصر الحديث نظراً لتداعيات الحرب العالمية الأولى والثانية ونتائج الاستعمار والانتداب البريطاني والفرنسي في الوطن العربي .
لقد بدأ "أول الدم" وسيرورة الإرهاب باغتيال الملك عبدالله المؤسس يوم الجمعة 20 – تموز – (يوليو) -1951م داخل المسجد الأقصى في القدس، المدينة التي كانت تحظى بأهمية بالغة لدى الملك وحافظ جيشه العربي الأردني عليها بالغالي والنفيس في معارك القدس عام 1948م . حيث ينقل وزير الأعلام الأردني السابق سمير مطاوع(6-6-2020) عن حابس المجالي قائد الكتيبة الرابعة آنذاك أن الملك عبدالله في حرب 1948م تفانى بحماية القدس خاصة بعد استنجد به أهل فلسطين وقيادتها رغم محاولات الإنجليز الحيلولة دون ذلك "حيث جمع الضباط الأردنيين من وراء ظهر القائد الإنجليزي (جلوب باشا) وأمرهم "بالقتال دفاعا عن القدس حتى أخر رصاصة وأخر جندي" .
واستمر تهديد الإرهاب حتى الآن؛ حتى وأن خفت حدته بظهور الرواية الطوبى التي تدعي النقاء والطهورية كمنتج لتلك الرواية ولم تنفصل عنها لان ذخيرتها التأريخية ومنظومتها المعرفية التاريخية للأردن كانت مُترعة بأدبيات الرواية الاستعمارية والاستشراقية التي استطاعت تخريب المنظومة المعرفية للفكر العربي وتركته مسلوب الإرادة، ومسحور ويقلد الغالب ، لا بل تشبث باستماته بخطوط الرمل التي رسمها له المستعمر البريطاني والفرنسي.
أن هذه الرواية تنظر للأردن من نافذة تطل على ماضي أرض الحشد والرباط فجأت الرواية الاستعمارية التي اعتمدت نظرية المؤامرة والتواطؤ لتخدم أهدافها ودعايتها وسط جماهير شعبية محبطة ومقهورة وخائبة الرجاء تبحث عن مخرج ومُخلّص ، وقشة للنجاة. وذلك بعد ظهور حركات ما اصطلح علية "الإسلام السياسي" التي عبرت عنها بعنف السلفية الإرهابية وعلى رأسها تنظيم القاعدة وفروعه والمتأثرين به، وتنظيم داعش والنصرة وفروعهما والمتأثرين بهما.
لقد تم شيطنة تأريخ الأردن منذ 1921م من خلال حشرة في حواشٍ ضيقة لسردية الرواية الاستعمارية البريطانية المستندة على "التخطيط الاستراتيجي لإنشاء الدول الضعيفة التي تظل معتمدة على بريطاني وتقوم بوظيفتها على شكل خرافة مؤسَّسية" ، أو "دولة وظيفية" يتم تكرارها بشكلٍ أجوف باستمرار أحيانا بسذاجة وجهل، وأحياناً أخرى للنقد والهجوم لتحقيق أغراضاً سياسية .
وللأسف فأن هذه السردية الناتجة عن عقدة النقص التاريخية مازالت هي التيار المهيمن في تأريخ الأردن السياسي على أقل تقدير، وكأن التاريخ صخرة صماء لا يعتريه التغيير والتحولات، والدول والإمبراطوريات حتى لو كانت بريطانيا وفرنسا لا تضمحل وتتحلل!