موت الكبار .. غيضٌ من فيض
د.محمد المجالي
06-06-2020 05:31 PM
عرفته منذ عام 2002 في جامعة الزيتونة الأردنية حينما قدمت من جامعة مؤتة زائراً في إجازة تفرغ علمي، طلب مني أن أكون عميداً لشؤون الطلبة بعد أن حصلت على إجازة دون راتب من جامعة مؤتة، كان يقضي معظم وقته في عمادة شؤون الطلبة يدير كافة الأمور الإدارية من هناك، كان يحب شؤون الطلبة كثيراً، ويرى أنّ نجاح أيّ جامعة يرتبط بنجاح عمادة شؤون الطلبة فيها.
كان رجلاً شهماً، طيّب المعشر، متواضعاً، بشوشاً، كريماً، متسامحاً، مخلصاً، وفيّاً، محباً للعلم والعلماء.
تعلّمت منه الكثير خلال تواجده الدائم في عمادة شؤون الطلبة، كان كتاباً مفتوحاً، صاحب تجربة غنية، علّمته الحياة أموراً كثيرةً لا يقوى عليها أيّ شخص آخر، تعلّمت منه، الصبر، والأناة، واحترام الرأي الآخر، والترّيث في إطلاق الأحكام، والتحرّي الدقيق للمعلومة، والحرص على الإنجاز. كان يحب مكافأة الموظفين المخلصين، والعاملين الجادين، ويحرص على متابعتهم يومياً.
حينما عُدت الى جامعة مؤتة عام 2006، كان يتّصل معي يومياً طالباً مني أن أعود إلى الزيتونة، ولم يكن بمقدوري أن أرفض له طلباً، لذا فقد تقدمت باستقالتي من جامعة مؤتة، وعُدت إلى جامعة الزيتونة، عُدت لأعمل إلى جانب هذا الرجل الوفي المخلص، الذي غيّر في مسيرة حياتي الشيء الكثير، إذ جعلني أكثر تفاؤلاً وعشقاً للعمل.
طلب مني أن أعود عميداً لشؤون الطلبة من جديد، وعُدت كما أراد عميداً لدورتين متواصلتين كان خلالهما يدفعني إلى مزيد من العمل والإنجاز، وتوفير سُبل الراحة والاطمئنان لطلبة الجامعة، كان يحرص على الاستماع لكثيرٍ من الطلبة داخل العمادة وخارجها لتحقيق مطالبهم، ويحرص على الاستماع للموظفين كافةً أيضاً للوقوف على حاجاتهم.
كانت مواسم التخريج بالنسبة له مواسم خير وفرح وعطاء، كان يحرص على متابعة بروفات التخريج بنفسه، ويحرص أيضاً على حضور حفل التخريج الرسمي كاملاً، والحفل الفني الذي يليه سعيداً بحضور أهالي الطلبة ومشاركتهم أفراح الجامعة. وكان يحرص على تقديم المكافآت لجميع الذين شاركوا في إنجاح الحفل من العاملين في الجامعة.
بعد أن انهيت عملي في شؤون الطلبة استشارني في أن أكون عميداً لكلية الآداب فوافقت، وصار يحضر يومياً إلى مكتبي للالتقاء بالأساتذة يحثهم على العمل، ويشجعهم على كتابة الأبحاث، وعقد المؤتمرات المتخصصة.
لم يُعقد مؤتمر في الجامعة إلّا وحضر حفل افتتاحه، فضلاً عن حفلات تكريم المشاركين، احتفاءً بهم، وتشجيعاً لهم، وكان حريصاً على أن تُشارك فرقة جامعة الزيتونة الفنية حفلات التكريم، وكم كان توّاقاً إلى أن تكون هذه الفرقة من الفرق المتميزة محلياً وعربياً.
حين أنهيت عملي عميداً لكلية الآداب، طلب من الأستاذ الدكتور رشدي الحسن رئيس الجامعة آنذاك التنسيب لمجلس الأمناء بترشيحي نائباً للرئيس، ثم كلّفني بأمور كثيرة في الجامعة، معظمها يدخل في باب العمل الميداني وقد اكتسبت من ذلك خبرات كثيرة، وفي هذه المرحلة كانت الجامعة تستعد للحصول على شهادة ضمان الجودة، وقد كان هذا الموضوع من أكثر الموضوعات المقلقة بالنسبة له، إذ ظلّ يلتقي بأعضاء الهيئة التدريسية في كليات الجامعة يومياً، يحثهم على العمل بتفانٍ، حتى تمكنت الجامعة من الحصول على شهادات ضمان الجودة في معظم كلياتها.
وكان حريصاً في هذه المرحلة أيضاً على تشجيع الأساتذة على النشر في مجلات عالمية مرموقة، يسأل عميد البحث العلمي يومياً عن عدد الأبحاث المنشورة، وأكثر الكليات نشراً، يكافئ الجادّين المتميزين، ويؤنّب الآخرين طالباً منهم مزيداً من الإنجاز والعمل. وكان حريصاً على متابعة أوضاع الطلبة المالية، يقدم لهم العون والمساعدة. وكان يتابع خريجي الجامعة، ويسأل عن حجم انجازاتهم في مواقع عملهم، كما كان يتابع موظفي الجامعة ويطمئن على أحوالهم الصحية ويقف الى جانبهم إذا ما مرّوا بظروف صحية صعبة.
كثيراً ما كان يقول لي "كان حلمي منذ بداية السبعينيات ومنذ كنت أعمل في المملكة العربية السعودية انشاء جامعة خاصة في الأردن لإعداد جيل متعلم يسهم في نهضة الوطن".
شكّلت اقامته في المملكة العربية السعودية محطة مهمة بالنسبة له، فكثيراً ما كان يحدثنا عن حياته هناك، يستغرق في الحديث منتشياً بكل لحظة عاشها، وكان يستذكر دائماً وبسعادة غامرة جميع الذين عملوا معه دون أن ينسى أحداً إذ كانت ذاكرته قوية، وتفكيره منظماً.
كان يُسرّ حينما يزوره أحد الذين شاركوه العمل في السعودية، وكان يفخر بحجم إنجازاته ويطلعنا ويطلع ضيوف الجامعة على الشهادات وجوائز التقدير التي حصل عليها خلال تواجده هناك.
وخارج حدود العمل الرسمي كان يرغب في أن يلتقي أسبوعياً بمجموعة من الأساتذة والأصدقاء في مزرعته في المجدل (جرش)، كان يطلب مني أن اتصل بهم جميعاً، وإذا أعتذر أحدهم ناله الغضب والسخط وهم الدكتور محمد الوحش والدكتور رشدي الحسن، والدكتور أحمد الشحروري، والدكتور سعد غالب، والسيد سليمان أبو غيث، والدكتور سليمان الزبن، والدكتور منير عفيشات فضلاً عن عدد من أصدقائه ممن عملوا معه في السعودية في سنوات مبكرة.
كنّا نتناول طعام الغداء ثم يبدأ هو -رحمه الله –بطرح مجموعة من الأسئلة سواء كان ذلك في الموضوعات السياسية أم الاجتماعية أم الاقتصادية، كنّا نتطارح الآراء وكان يغضب ممن لا يبدي رأياً.
وكان حريصاً على أن تلتقي المجموعة نفسها في منزل الدكتور أحمد الشحروري في الأسبوع الأخير من كل شهر من أشهر رمضان المبارك، للتداول في موضوعات كثيرة أيضاً.
كانت ثقته بي كبيرة، وكنت قد عاهدت الله أن أكون صادقاً معه في كل شيء. كان يغضب حينما كان يسأل عني ويجدني قد خرجت من الجامعة دون علمه.
حينما شغر منصب رئيس الجامعة، كانت رغبته –رحمه الله-أن أكون رئيساً، وحينما صدر قرار مجلس التعليم العالي بتعييني رئيساً اتصل بي مباركاً وقدّم لي مجموعة من النصائح المهمة التي لن أنساها ما دمت حيّا.
لم يمنعه المرض في الشهرين الأخيرين من زيارة الجامعة أسبوعياً، فهي المكان الأكثر عشقاً بالنسبة له، والصرح العلمي الذي حقق من خلاله إنجازات كثيرة.
كانت آخر مكالمة له معي قبل أن تُصدر الحكومة قرار تعطيل الجامعات بيومٍ واحد، قال لي حينها بصوت هادئ متهدّج:
"أنا متضايق لأن كل الأمور الصعبة جاءت مع بدء عملك رئيساً للجامعة، أرجوك اجلس مع أساتذة كلية الآداب وأطلب منهم أن ينشروا مزيداً من الأبحاث".
رحمك الله يا أبا إيهاب رحمة واسعة فقد كنّا نستمد منك العزم، ونُقبل على الحياة متفائلين، كنت عشقنا وحبنا وأملنا، تعلّمنا منك الكثير، وسنبقى على العهد ان شاء الله أوفياء مخلصين لك ولجامعتك، وأعاهدك أنا شخصياً أن اظّل مخلصاً لك، وأن احافظ على الأمانة التي كلفتني بها.
ستبكيك جامعة الزيتونة (مبانيها وقاعاتها وساحاتها وملاعبها).
سيبكيك شجر الزيتون، وكل نبتة وقفت عندها تطلب رعايتها.
سيفتقدك الأساتذة والعاملون والطلبة.
سيفتقدك كلّ من مددت له يد العون والمساعدة ممن نعرف ولا نعرف.
نم أيها الشيخ الجليل قرير العين فنحن على العهد كما عرفتنا.
والى جنّات الخلد أيها العم الغالي.