حادثة قتل الأمريكي اسود البشرة جورج فلويد خنقاً على يد رجل الشرطة الابيض لم ولن تمر كسابقتها، بعد ان تكررت مئات المرات سابقاً، ومنذ اعلان محرر العبيد الرئيس "ابراهام لنكولن" انتهاء عصر العبودية لكن التشريعات بقيت حبراً على ورق وبقي السود يتعرضون للظلم والتنكيل حتى جاء مارتن لوثر كنج وتزعم احتجاجات السود على اثر مقتل اسود من رجال الشرطة وانتزع السود في محطة تالية من الرئيس الامريكي لوندون جونسون قانون الحقوق المدنية عام 1964 والذي وضع حداً لكل اشكال التمييز العرقي والجنس والديني ورغم كل ذلك فإن القانون لم يغير كثيراً من بطش الشرطة الامريكية وتكرر اعتقال السود بطريقة مذلة وظالمة رغم التشريعات القانونية ومبادئ الدستور الامريكي.
وفي محطة تالية اخرى افاق الامريكيون في اعقاب الانتخابات الرئاسية قبل عشر سنوات على فوز باراك اوباما الاسود رئيساً للولايات المتحدة الامريكية وظن الكثيرون ان امريكا عبرت الى عصر ما بعد العنصرية، ويبدو ان ذلك لم يكن الا انطباعاً على مستوى النخبة من رجال الكونغرس والاحزاب، ولم تنزل هذه المبادئ لتفعيلها على مستوى الشارع، وبقيت العنصرية الامريكية تتفاعل في نفوس طائفة كبيرة من الامريكيين الذين شكّلوا بما يسمى باليمين المتطرف، وبقي السود والهنود الحمر والشرق آسيويين يعانون من موجة الكراهية الخامدة تحت الرماد.
مع مجيء الرئيس ترامب الذي نصّب نفسه زعيماً لليمين المتطرف المشبع بالعنصرية، والذي افصح عن نفسه عندما اشعل فتيل العنصرية وبدأ بالعرب والمسلمين فقرر منع دخولهم الى امريكا ثم بالمكسيكان ثم بالصينيين، ولم يألو هذا الرئيس المعتوه عن التوقف في تسجيل الفشل تلو الفشل، فمن التعثر في مواجهة ازمة الكورونا في بلاده، الى الفشل في وقف انهيار اسعار النفط، الى التخبط في معالجة انتفاضة البوعزيزي الامريكي وبدء ثورة الربيع الامريكي، حتى ان بعض المتشفين وهم بالملايين في المنطقة العربية والاسلامية ، وفي فترة اصطهاج وسلطنة وسعادة بما يحل بهذا الرئيس المتغطرس الذي سجّل في تاريخه الاسود بأنه اول من تجرأ على منح القدس العربية هدية لاسرائيل وكذلك الجولان العربية، والذي أذل قادته ولا يفتئ عن ابتزازهم والتنكيل بهم سراً وعلناً، وربما يكون ذلك مبعث لخيالهم الجامح بتصوير الانتفاضة الشعبية للامريكيين في اكثر من ثلاثين مدينة امريكية على انها "انتفاضة القرن" في امريكا، وبدوا يتندرون و يألفون قفشات التشفي على غرار "ترامب يستعين بالشبيحة لوقف الانتفاضة السلمية"، او "ترامب يختبئ في ملجأ سري"، او "وزير الدفاع اسبر ينشق عن نظام ترامب"، او "بعد اعصار كاثرينا ... اعصار مينا بوليس"، او "ترامب يزعم بوجود مؤامرة خارجية على امريكا"، او "الجيش يتخلى عن ترامب"، او "خامنئي يحذر ترامب من استعمال القوة مع المتظاهرين".
مما لا شك فيه ان ظاهرة ترامب حيرت كثيراً من السياسيين والمحللين ويبدو ان مسمار فلويد الاسود سيكون مؤثراً في نعش كرسي الرئاسة للفترة القادمة الذي يحلم به هذا الرئيس العنصري. وان لعبة العسكر والسود قد شارفت على النهاية، بعد ان اصبحت مطالب السود والاقليات الامريكية ليست مقصورة على حسن تعامل الشرطة الامريكية معهم، بل على ضرورة اعطائهم مزيداً من الرعاية والاهتمام في مجال التعليم والتوظيف والتأمين الصحي الذي لا يتوفر لهم بنفس السوية مع الامريكيين البيض، مما يدفع البعض منهم الى الجموح والجريمة.
لقد عبر فلويد بمقولته (لا أستطيع ان اتنفس) التي ستأخذ مكانها في صفحات التاريخ لتعبر ليس عن حالة خنق مادي ملموس ومتعمد، بل شعاراً عالمياً يرمز لكل حالة قهر وكبت لأنفاس الجماهير وتطلعاتها، او للتنكيل بفئة او طائفة او جماعة عرقية من البشر.