ورحل علي القرم رجل المواقف والانسانية
د. محمد القضاة
05-06-2020 06:37 PM
عند الرحيل تذكر المواقف وتتأمل تلك المشاهد، ولا تدري من اين تبدأ اذا عرفت الحقيقة وادركت ان الناس ليس بشهاداتهم وأموالهم وألوانهم؛ وإنما بمواقفهم الانسانية وايثارهم وشهامتهم، وعلي القرم عرفته عن قرب، مضى في صمت وودع الحياة بهدوء وسكون وألم، مضى وهو يحمل هم فراق فلذة كبدة ابنته قبل اشهر عدة، مضى وترك ارثاً طيباً، وقصصا لا تنسى، ما اقسى الرحيل وما اصعب الكلمات حين تكون عن انسان له من الايدي البيضاء ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر، اعود اليه حين تعرفته قبل اكثر من عقدين من الزمن، كان يأتي يوميا الى مكتبي حين كنت عميدا لشؤون الطلبة في جامعة الزيتونة على مدار سنتين نتحدث فيها ونعمل وكان يحدثني عن مواقف مثيرة وكثيرة ووجدته يفهــــم الوطن والوطنية بمقيايسه ، ويدرك ان واجبه لا يقتصر على محيطه، ويعرف مالا يعرفه الاذكياء والاوفياء، وكان يبادر في كل لحظة، ويبسط يده للفقير والمحتاج، ويقف شامخاً بإخلاقــه وكرمه وأصالته ودينه، وتجده هائجاً مائجاً كالبحر حين يرى (الغلط)؛ لكن قلبه ابيض من الثلج ، تحدثه وتناقشه تجده صعب المراس، قوي الشكيمة والحجة ، لا يتوقف عند الصغائر ، ولا يسأل عن المال، يبحث في كل الوجوه، ويدرك بفراسته الصــــادق من غيره، والمخلص من سـواه ، والنقي من غيره.
كان علي القرم كأي أردني أو فلسطيني يعيش ايامه الأولى على البساطة والقناعة، وحين تعود الى ايامه الأولى تجده الفقير الذي ترك الدار و الارض يبحث عن لقمة عيشه، سافر من معاناة الأيام واخذ معه ذكريات الآباء والاجداد ، بدأ مثل غيره بسطا ثم انتقل في الفيافي و القفار، وذاق هجير البرد ولفح الحر، علمته الايام بعجرها وبجرها ان الحياة لا تتوقف عند حدود الأشياء، وانها لا بد ان تثمر مع التعب والشقاء ، وان يصل فيها الانسان يوما ما الى مراده بعد حين. كنت اتوقف امام ذاكرته وهو يتذكر ما له وما عليه وكان يحرص على المعلومة المفيدة وكان لمّاحا، يتابع كل صغيرة وكبيرة وتراه مثل الزنبرك لا يتوقف، تجده معك في كل مكان ، يطرح آراءه وأفكاره غير هياب من احد ، يقدر المجتهد ويجزيه بعطاياه ، ويقتنع من الدينا بما قسمه الله اليه ، ويفتح يديه للصغير والكبير ، ويعلم الفقراء ، وقد ذكر لي حين كنّا طلاباً في الجامعة ان عشرات الطلبة قد تعلموا على نفقته ولَم يتوان عن الاستمرار في مد يده لكل محتاج وفقير وطالب علم، كان يقدر العلم ويعرف انه الطريق الأمثل للحياة ، وحين تسأل عنه تجد له في جامعات كثيرة طلبة يدرسون على نفقته.
وعلى مر الزمن كان في بلدنا رجال اوفياء لوطنهم واهلهم وأمتهم يتحملون عن الوطن والفقراء المسؤوليات التي تدفع بالمجتمع الى الحياة الأفضل، وتصل الفقير بالغني ، والكبير بالصغيـــر ، فما احوجنا الى رجال من كل الازمان يقفون مع انفسهم يحترمون خصوصية الأمة يقدمون لمجتمعاتهم قدراتهم واموالهم، لا يتوقفون عند مفصل او محطة واحدة ، ينظرون حولهم انهم ليسوا ابناء بيئتهم حسب، وانما ابناء أمتهم وعروبتهم و دينتهم، وحين تعود الى هذا سيرة المرحوم القرم تجده على مدار عمره كله يركض وينطلق ويستثمر ويبني ويتلمس اوضاع الناس في القرية والمخيم، كان يبني المدارس والمساجد والجامعات، ويتبنى الفقراء ويعلمهم اصول الحياة والعلم، ويقدم امكاناته للمحتاج، كان يستمع لغيره ويحسن الاستماع، و يعرف دورة الحياة وقطارها ويتبصر تعاليم دينه، يعرف معالم قريته التي تركها منذ طفولته؛ لكنه ما دخل قرية الا كانت قريته يترك اثره فيها،عاش في المملكة العربية السعودية شبابه وما تخلى عن وطنه لحظة واحدة كانت فلسطين والاردن سواء بسواء . وبعد ونحن نودعه ونضرع الى الله عزوجل ان يرحمه ويغفر اليه، نقول ما احوجنا الى مثل هؤلاء الرجال في كل زمان ، رجال ينقشون صورهم بصدقهم وعملهم وتفانيهم وانسانيتهم وحسن اخلاقهم، فالى رحمة الله يا ابا ايهاب والى جنات النعيم.قال تعالى:"كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ” ولا يبقى الا الذكر الطيب وذكراه لا تنسى.