"الأستاذ" يخطّ آخر سطوره في سفر الخلود
سعد حتر
04-06-2020 03:14 PM
عاشق الأردن، ناشد السلام وحارس الوئام المجتمعي خطّ سطره الأخير في سفر الخلود وترجّل؛ تاركا خلفه إرثا ثريا في حقول السياسة، الأدب السياسي والأكاديميا وحلما ببناء "المدينة الفاضلة".
من بين ألقابه العديدة، كان كامل أبو جابر يفضّل أن يكنّى ب"الأستاذ"؛ الرسالة الأحب إلى قلبه، تنقّل منها إلى محطّات بارزة في البحث العلمي وحوار الأديان، وصولا إلى دهاليز السياسة والاشتباك على جبهة مفاوضات السلام بطلب من الملك الراحل الحسين بن طلال.
ترك بصمته الخاصّة وعصارة فكره لدى عشرات الآلاف من الطلبة عبر ثلاثة أجيال في أربع قارات. غرس عشق الوطن والتوق صوب المعرفة والإبداع لدى طالبات/ طلبة بلده من شماله إلى جنوبه. في "الأردنية"، وضع أساسات ثلاثة مراكز بحثية: الدراسات الاستراتيجية، الدراسات السكانية ثم الاستشارات والتعليم المستمر. عيّنه الأمير الحسن بن طلال رئيسا للمعهد الملكي للدراسات الدينية عام 2010، قبل أن يستقيل من هذا المنصب عام 2014.
في كتابه "ذكريات من رحلة العمر" من إعداد الزميل عمر العرموطي، يستذكر البدوي/ الفلاح سنوات تدريسه مساق العلوم السياسة والحضارات المقارنة في الجامعة الأردنية بدءا من 1969، بعد خمس سنوات على ميلاد أولى جامعات الوطن. "لأنني أعدّ نفسي ابن بادية وعشت في وسط بدوي، كنت أطلب من طلابي أبحاثا في صميم القضايا المحلية وتركيبة المجتمع الأردني"، وسائر مكونات العروبة والإسلام.
من بين طلابّه البارزين رئيس الوزراء الأسبق معروف البخيت، وزير الخارجية العراقية السابق هوشيار زيباري ووزيرا التربية والتعليم السابقان عبد الله عكايلة ومحمد ذنيبات.
رفيقة دربه لوريتا باسيفيكو الأمريكية من أصل إيطالي تختزن في البال بسمة الرجل البشوش فارع الطول والزوج المثابر. "كان دائم الابتسام، متفائلا وإيجابيا حتّى في أحلك الأوقات"، تقول لوريتا وهي تستذكر كيف طلب منها الراحل سرعة "ضب الشناتي" لأنه قرّر العودة لخدمة الوطن متخليا عن الاستقرار والتدريس في أهم الجامعات الأمريكية.
"كان أبوي يحب تناديه الناس أستاذ وبس. ما كان يحب الألقاب"، تقول ابنته الكبرى ليندا. إلى جانب كتبه بالمئات، تؤشر ليندا إلى أكوام من الأوراق والملاحظات التي كان يدونها بخط يده عن فحوى أنشطته واجتماعاته على مدى سبعة عقود.
من عمادة كلية الاقتصاد الوطني، دخل الفقيد عام 1973 حكومة زيد الرفاعي الأولى ثم استقال منها لأسباب قومية. وفي 1991 اختاره الملك حسين وزيرا للخارجية في حكومة طاهر المصري، وكلّفه برئاسة الوفد الأردني-الفلسطيني المشترك إلى مؤتمر مدريد للسلام.
في ذلك الملتقى الأممي، ختم أبو جابر كلمة الأردن بآية من الذكر الحكيم: "..ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى". ويذكر في سيرته أنه دخل المفاوضات وخرج منها دون أن يضع يده بيد أي إسرائيلي. "حين كنت أحاول فحص عيون (رئيس الوفد الإسرائيلي) إسحق شامير علّني أحلل شخصيته، كانت عيونه تطير في جميع الاتجاهات" هربا من النظرات، يذكر الراحل كتابه "رحلة العمر".
لدى إدارته للدبلوماسية الأردنية، صاغ أبو جابر معادلة راقت للراحل الحسين بن طلال حينذاك: "كلما كانت الدولة صغيرة ومحاطة بالنار – كما الأردن- كلما احتاجت للتحرك السريع والفاعل على المستويين الإقليمي والدولي من أجل شرح وجهة نظرها والدفاع عن قضاياها".
محتوى كتابه السياسي الساخر sheep land (أرض الخرفان) يحاكي عبقرية جورج أورويل في كتابهAnimal Farm (مزرعة الحيوانات). وكان يأمل هذا الناقد الجسور في ترجمة كتابه الاستثنائي إلى العربية لفضح سيطرة مراكز قوى الاستعمار الحديث على حكومات العالم الثالث والتحكم بمصالح شعوبها.
كان يؤمن بحكمة الفيلسوف الفرنسي فيكتور هوغو: "لا يستطيع جيش مهما كانت قوته أن يوقف فكرة آن أوانها". تعلّم من دورة الحياة في 88 سنة أن "لا شيء يدوم سوى وجه الله وأن كل من عليها فان". وكان يستشهد بنظرية الفيلسوف الإغريقي أرسطو طاليس: "هناك أمران ثابتان فقط؛ الزمن والتغير. وبما أن الزمن هو الخط الثابت فإن التغير هي السمة الدائمة فيه".
كان الراحل عفيف اليد، عذب اللسان وبهيج الطلّة يشع كنوزا من المعرفة الموسوعية والحكمة المتجذرة.
تخصّص بلازمتين لدى الترحاب بالناس. فكان يردف التحية بسؤال: "أنت سعيد/ة بحياتك". وعندما يسأل عن صحتّه كان ردّه جاهزا من وحي بيئته البدوية الريفية: "تفاقيد الله رحمة".
لترقد روحك بسلام وسكينة بقدر البسمات التي رسمتها على وجوه ميريدك والحكمة التي غرستها لدى مرؤوسيك وطلاّبك وسائر من اطلعوا على إرثك الأكاديمي والإنساني.