الإنسان لا يمكنه الحياة دون تأجج مشاعر الحب، فالحب ماء الحياة وإكسيره والإنسانية ترتبط عضويا بالحب ومنسوب الحب يتناسب طرديا مع السمو الإنساني فى أرقى تجلياته وعكسيا مع الشر فى أدنى صوره والتاريخ الإنسانى حفل بالعديد من قصص الحب الخالدة، واكتسبت خلودها مما واجهه أبطالها من مآس وما أدت إليه من حروب، وشهدت البشرية فواجع وكوارث تحديا لصراعات الحب، وأصبحت مضربا للمثل فى الوفاء والإخلاص، وفى هذا الإطار تأتي ملاحم روميو وجولييت، وأنطونيو وكليوباترا، وقيس وليلى، وعنتر وعبلة، وجميل بثينة، وكثير وعزة، وقيس ولبنى وغيرهم من كامل جغرافيا المعمورة، ولكل ملحمة تفاصيلها التي تتفق والبيئة التى شهدت أحداثها، البعض كان يلتقي فى البوادي والبساتين وبئر الماء بعيدا عن أعين الناس، بينما كان روميو يقف لجولييت أسفل شرفة منزلها ليحظى بنظرة عشق تروي كيانه كله وتشعره أنه يعيش فى الجنة ونعيمها.
الحب لا يختلف كثيرا من زمن لآخر ومن مكان لمكان، وقد رصدت أغنية الفنان محمد عبدالمطلب وهو يروح ويغدو لحبيبته ماشيا على قدميه من منطقة السيدة زينب إلى حي الحسين بالقاهرة، تجربة خاصة عبر عنها الفنان القدير بأغنيته الشهيرة «ساكن في حي السيدة وحبيبي ساكن فى الحسين وعشان أنول كل الرضا يوماتي أروح له مرتين من السيدة لسيدنا الحسين»، كان المحب ينتظر إطلالة محبوبته من شرفة منزلها، بينما يقف أسفل المنزل بدراجته متعللا للجيران بأي سبب لوقوفه أسفل منزل المحبوبة، كما كانت أسطح المنازل من أشهر أماكن لقاء الأحبة بعيدا عن أعين الأهل والمتلصصين، وسط موجات حب كهربائية شديدة مغلفة بأشجان الحب العذري الطاهر بينما تسبح الرومانسية في بحار الأشواق ولهيبها بروحانيات شديدة التألق والوجد والنور، ولقد وثقت السينما حال المحبين فى ستينيات القرن الماضي قبيل التكنولوجيا فائقة السرعة التي نعيشها، كانوا عندما يلتقون يبدون كأنهم قد خرجوا من جحيم الأشواق وسعار أنينه إلى جنة فيها ماء السلسبيل الذى يروى عطشهم ويبرد نيران عواطفهم بمجرد الرؤية والكلام.
وفي الألفية الثالثة كانت المنتزهات والكافيهات والسينمات أماكن لقاء الأحبة دون حظر أو عوائق، إلى أن جاءت جائحة كورونا فوضعت الحواجز بين المحبين وعزلتهم عن بعضهم، وانحسر التواصل، وأصبح حصرا عبر وسائل التواصل الاجتماعى وكما يقال في الأثر الإنجليزى «الحاجة هي أم الاختراع»، وكذلك القول في الأثر الشعبي العربي «الممنوع مرغوب»، فإن جائحة كورونا قد غذت مشاعر البشر بمعانى الفقد من الأحبة، وأشعرتهم بنعمة وأهمية انتماء الإنسان لبني جنسه وأنه لا يستطيع الحياة بدون من يكمل نقصه ويعوض فقره ويحقق به كمال وجوده على الأرض ويشعره بنعمة الأمان والسلام النفسي والطمأنينة التي لا تتحقق إلا بلقاء الأحبة، لذلك قاوم المحبون العزل الإجباري لكورونا وتحدوها بأساليب جميلة وشيقة، وهو تحد صحي جدا من أجل البقاء والسعادة، مثلما وجدنا الشاب اللبناني محمد الصمد عبر اليوتيوب وهو يتسلق شرفة محبوبته ليقدم لها خاتم الزواج رافضا تأجيل الخطبة لحين انتهاء الجائحة، هو مقطع هاجمه الكثير واتهموه بأنه يقلد الغرب، وبرأيي أن هذا المقطع على اليوتيوب أكد أن المشاعر الإنسانية أقوى من أي أخطار للامرأض والأوبئة وظهر العديد من قصص الحب والغرام التي قاومت كورونا وتحدتها في مختلف دول العالم.
فقد ألقى كيوبيد بسهامه بين «أحمد» المرشد السياحى المصرى و«تشو» الصينية قبل عام وتوجا حبهما بإعلان الخطبة الرسمية فى 22 يناير الماضي أثناء زيارته للصين، لتظهر بعدها أنباء عن فيروس كورونا ووسط مطالبة الأهل لابنهم بالعودة السريعة إلى مصر واضطر للعودة لوطنه لكنه عاد أدراجه للصين ليداوي قلبه بدفء محبوبته، الحب دائما هو مفتاح التحدي لأي أزمة حتى لو كانت وباء، ولم يكن هناك وباء لاخترعه الإنسان لكي يمرر من خلاله مفتاح التحدى مثلما فعل الكاتب العالمي جابرييل جارسيا ماركيز في روايته «الحب فى زمن الكوليرا»، فالبطل المحبوب يطلق شائعة وباء الكوليرا على السفينة التي يركبها مع معشوقته ليتخلص من المسافرين، ولتتاح له فرصة التعبير عن عشقه لها رغم أن عمرها سبعون عاما واخترع ماركيز وباء الكوليرا على لسان بطل روايته الشهيرة، إنما أكد من خلاله حاجة الإنسان للحب الحقيقي والصادق فى كل مرحلة من مراحل عمره وحتى الشيخوخة، وربما يكون الله قد من علينا بجائحة كورونا لنتخلص من رتابة حياتنا المادية وهيكلتها الرأسمالية التي قتلت فينا أجمل المعاني، ولتحيي كورونا فينا زمن الرومانسية الجميل ونستعيد إنسانيتنا بالحب الصادق ولفتني مؤخرا وأثناء الحظر تجلى معانى الحب في أبهى وأجل صورها، فهناك من المحبين من تحمل المشى لعدة كيلومترات في مناخ قاس ليحظى برؤية حبيبه، ومنهم من استقل دراجة هوائية لعدة كيلومترات فى سبيل أن يكحل عينيه برؤية الحبيب، في مشهد يعيد للأذهان ملاحم الحب الخالدة.