كامل أبو جابر «حكومة النيدو» ومدريد فشل بأرضه
د.مهند مبيضين
31-05-2020 12:45 PM
يصحُ بعد رحيل القامة العربية الأردنية، الندية الدكتور كامل صالح ابو جابر ان نذكر لكريمتيه ليندا ونائلة، أبيات لَبيد بن ربيعة (توفي 41 هـ/661 م) وكان أحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهلية. وكان عنده بنتان اثنتان، فأوصاهما شعراً إن مات قائلاً:
تَمَنّى اِبنَتايَ أَن يَعيشَ أَبوهُما
وَهَل أَنا إِلّا مِن رَبيعَةَ أَو مُضَر
وَنائِحَتانِ تَندُبانِ بِعاقِلٍ
أَخا ثِقَةٍ لا عَينَ مِنهُ وَلا أَثَر
فَقوما فَقولا بِالَّذي قَد عَلِمتُما
وَلا تَخمِشا وَجهاً وَلا تَحلِقا شَعَر
وَقولا هُوَ المَرءُ الَّذي لا خَليلَهُ
أَضاعَ وَلا خانَ الصَديقَ وَلا غَدَر
إِلى الحَولِ ثُمَّ اِسمُ السَلامِ عَلَيكُما
وَمَن يَبكِ حَولاً كامِلاً فَقَدِ اِعتَذَر
حَشودٌ عَلى المِقرى إِذا البُزلُ حارَدَت
سَريعٌ إِلى الداعي مُطاعٌ إِذا أَمَر
وَقَد كُنتُ جَلداً في الحَياةِ مُرَزَّءً
وَقَد كُنتُ أَنوي الخَيرَ وَالفَضلَ وَالذُخَر
هذا شعر يصح براحلنا، الذي كانت ولادته العام 1932 في قرية اليادودة جنوب عمان، ووالده هو صالح فريح صالح أبو جابر من عائلة إقطاعية كان ملماً بالتركية والإنجليزية، تشير سجلات محكمة السلط الشرعية في العام 1879 إلى أن جده لوالده الملقب بصالح الأقرع "من طائفة المسيحيين القاطنين بالسلط اشترى له ولولديه فريح وفرحان بما لهم من البائعين بيعاً باتاً صايل واشتوي وصياح الحديد جميع الأراضي المفتلحة الواقعة بقرية عمان..".
نعم كان صالح أبو جابر اقطاعيا وصاحب رؤية زراعية، وكريما لحدود بالغة، وكان كامل أبو جابر رحمه الله معتقا بالزراعة، قضى طفولته في اليادودة في حياة اتسمت بأنها "رعوية فلاحية قاسية". ومع ذلك عَنت العائلة بالثقافة بسبب والدته أنيسة زعرب ذات الأصول الرملية التي وصفها في ذات لقاء معه بقوله:"كانت مثقفة وعندها مكتبة في بيت عمان، وظلت تصر على تعليم الإخوة السبعة". ولذلك أرسل والده شقيقه فريح وغالب للدراسة في مدارس الفرير والفرندز في فلسطين.
أول العلم تلقاه في البيت؛ إذ احضر الوالد المعلم سليمان "كان من فلسطين، ويلبس القمباز الذي يتوسطه كمر/ شريط قماشي ودرّسنا الإنجليزي والحساب".
بالرغم من كره والده السكن في عمان، إلا أن الأسرة اضطرت أواخر العام 1939 للرحيل إليها، فسكنت جبل عمان "جنوب مدرسة المطران" الذي كان يمثل عمان الجديدة.
تحدث راحلنا عن زمان طفولته أكثر مما كان يتحدث عن نفسه، كان يصف حياة الناس، والتحول من حياة الكفاف والرعي إلى حياة السوق، وكتب عن ذلك كتاب باللغة الانجليزية، واصفاً حياة العائلة التي هي غاية في البساطة وعمان التي بدت بلدة صغيرة حيث "الدوار الأول كان آخر دنيا عمان"، ومن معالمها التي يذكرها مدرسة التجهيز وسط البلد بشارع الملك طلال، التي كان بجوارها تجار السمانة ومحلات البيطرية للخيل والبغال التي بلغت عشرة محلات.
أما جيرانهم فمنهم بيت كلوب باشا الذي كان يأم منزل الأسرة ضيفاً هو وزوجته و"لعل معرفة والدتي بالإنجليزية ساهمت في الصداقة مع زوجة كلوب" ومن جيرانهم بيت أيوب من الحصن والشيخ علاوي الكباريتي وإخوته، الذين وصفهم بأنهم كانوا أول من عمّروا عمارة من ثلاثة طوابق، وكان علاوي رجلا مهيبا شديد الشكيمة كريما ووطنياً".
في أواسط الأربعينيات، رحلت الأسرة لحارة خرفان، وكان من جيرانهم بيت السمان وصبري الطباع وصالح المعشر وسعيد المفتي ورياض المفلح وعبدالرحمن خليفة و"بجانبنا عائلة من بيت الزين، وهي عائلة بهائية لها تقاليدها الخاصة، إذ الطفل عندما يهم بالخروج من أمام والديه لا يدير ظهره إليهما".
أوائل الأربعينيات التحق بالمدرسة الأهلية للبنات، التي كانت مديرتها آنئذ "مس ويلكنسون"، ومن زملاء الدراسة زيد بن شاكر وإبراهيم عزالدين ومعتصم البلبيسي، ثم ما لبث أن انتقل لمدرسة المطران. وبعد سنة على انتقاله دخلها الراحل الملك حسين "درس الحسين رحمه الله ثلاث سنوات ثم انتقل للكلية العلمية الإسلامية التي شيدها بشير الصباغ وبقينا نحن في المطران".
تخرج من مدرسة المطران العام 1951، وفيها درسه جريس هلسة الكيمياء والفيزياء، ودرسه خلف حدادين اللغة العربية "كان عندنا أستاذ قواعد صعب كرّهنا باللغة ولما جاء خلف حدادين حببنا بها".
ذاكرته الاجتماعية كانت ثرية، فقد تحدث عن المصروف الشخصي الذي هو يومها نصف قرش أو قرش في مدرسة المطران، ووالدته كانت تغطي رأسها ووجها بالملاية الشامية، فهي زوجة صدر وعين من أعيان البلد.
يستحضر بدايات الحركة النسائية، وتشكل الاتحاد النسائي "كانت والدتي مسجلة فيه ومعها زوجة سمير الرفاعي وزوجة توفيق أبو الهدى وأميلي بشارات"، ويرصد لحظة ما أعلنت بنت توفيق أبو الهدى سعاد أنها تريد أن تخرج سافرة، ويوم مرت من حارة خرفان أهل البلد طلعوا للتفرج عليها.
أستاذ العلوم السياسية، الذي عاصر ملوك الأردن جميعا، يذكر أن الأمير عبدالله المؤسس كان واعياً لخطر الصهيونية، وشخصية الملك المؤسس يرى أنها كانت مؤثرة ومباشرة، فهو يعامل الناس كأب "ذات مرة كان الأمير ماشياً بالشارع، ورأى أحدهم ماشيا بالبيجامة، فأوقف السيارة ونزل ونبه الماشي إلى أن لباسه غير مناسب للشارع".
بمثل ما هو متابع للتاريخ السياسي، فهو شاهد على زمن الحداثة الأردنية وما بعدها، فلما ظهر راديو الترانزستور، كان ثورة وكتبت عنه مقالات، أما أول سينما في عمان، فكانت البتراء "دخلتها سنة الأربعين في وسط السوق، وكانت ضخمة تتسع لألف آدمي، وفيها لوجات للعائلة المحترمة". والسينما كانت وسيلة للتواصل "عائلات عمان، مثل بدير ومنكو، كل عائلة لها لوج، وكل أسبوع هناك فيلم جديد، وليلة الافتتاح كل الناس يذهبون للسينما".
أخبار الحرب العالمية الثانية كانت تصور وتمثل أفلاماً، والجيش الأردني يذكر أنه ساهم بها بمجموعة أرسلت للعلمين في الحرب العالمية الثانية و"من الذين راحوا ابن عمي نواف أبو جابر الذي أُسر وبقي خمس سنوات طيلة الحرب، ثم عاد".
في شبابه يعترف أنه كان شقياً "كنت عفريتا، ولم انتسب إلا لنادي الجزيرة منافس الفيصلي، وكان الصراع بينهما". وأواسط الأربعينيات مع الحرب العالمية الثانية عمان لا تغيب عن ذاكرته بجنودها السنغاليين، والأخبار كانت تنقل عبر إذاعة برلين ولندن والهُتاف لهتلر كان طبيعيا وما بين ذلك كله كان إلحاح من والدته على أن "تعلمنا القضية الفلسطينية وانصب اهتمامها على ان تعلمنا بحكايا (إيا مون ديفاليرا) وهو ثائر ايرلندي ضد الإنجليز..".
أخوه فايز سبقه لأميركا العام 1950 "صار عندي حلم مثله"، وهو وإن حلم بإتمام علمه إلا أن أبو جابر يؤكد أنه "لم يكن فالحا بالمدرسة، كنت ما أطلع للصف التالي إلا بجرّافة، ومعي إكمال أو إكمالين، لم أكن متفوقا أبدا، كانت هناك نشاطات أمارسها مثل الرياضة..".
السفر لأميركا صار هاجسه، ولما أرسل له أخوه فايز أجرة الطريق، بعث 200 دولار بشيك و"أمي باعت اسوارتين"، كان ذلك المبلغ كافيا ليدفع منه أجرة الباخرة، التي ركبها عبر ميناء بيروت، وصل معه أربعون دولارا.
في أميركا عمل بعد يومين بجامعة سيركيوز، التي تخرج منها بالدكتوراه، وكان المشرف على عمل الطلبة أميركي من أصل هندي "شغلني من ثاني يوم وسألني شو بتعمل ثم قال: عندي شغلة طريش، قلت له: أبوي وجدي كلهم طريشة، فضحك عرف أنني امزح". وبعد الطراشة تحول لفراش أو مراسل "أنظف المكاتب والقاعات، وبقيت حتى تخرجت، وفي الصيف كنت اعمل بمصنع، ومنها مصنع كارير وجبسون للثلاجات والمكيفات".
تخرج العام 1965، وأرسل طلبات للعمل في الجامعة الأردنية حديثة الافتتاح، لكن جاءه رد من جامعة تنسي التي درس بها لعامين "أحببتها، فيها أغنياء وفقراء وشحادون، يشكلون نحو 30 ألف طالب".
في العام الثاني في جامعة تنسي جاءه هاتف من د. إبراهيم أبو لغد في جامعة سميث، وهي جامعة للإناث، وطلب إليه أن ينتقل مكانه حاول الاعتذار، لكن جامعة سميث تمسكت به.
قبل الانتقال لجامعة سميث ألف كتابا عن حزب البعث العربي الاشتراكي، ونشرت له بحوث في مجلة Moslem Word، وكتب بحثا عن الملل والنحل في الدولة العثمانية.
بتدخل من وصفي التل عين بالجامعة الأردنية العام 1969 وفي العام 1971 ترقى لرتبة أستاذ وعين عميدا لكلية الاقتصاد والتجارة.
يوم 24 أيار1973 هاتفه زيد الرفاعي "قال بدنا إياك وزير اقتصاد وأقنعني"، وكان معه فريق من الشباب في الحكومة الأولى لزيد الرفاعي، ومنهم سالم مساعدة وعدنان أبو عودة وطاهر المصري، كانت الحكومة الثانية والعشرون في تاريخ الأردن، وحملت لقب "حكومة النيدو" لأن جلها من الشباب".
هذا الفلاح الرعوي سيقوده الزهد والانتماء غير المعلن لحزب البعث بالرغم أنه كان وزير الاقتصاد للاستقالة، والسبب غير المعروف هو حرب 1973، وهو لا يريد أن يفصل كثيرا.
استقالته كانت ربما الأولى في تاريخ الحكومات، ويومها عين مكانه السيد عمر نمر حسن النابلسي، وغاب الرجل عن ماكينة الدولة "تجاهلتني الحكومات، ووجدت الأفضل أن أكون في الجامعة".
أوائل تشرين الأول العام 1991 عاد من جديد "اتصل بي طاهر المصري، وقلت له أمرك، وبعد مقدمة طويلة، قال بدنا إياك وزير خارجية، وبعدما سقت الأعذار، قال أخيرا: لست أنا فقط من أريدك، "الملك حسين بده اياك"، وفعلا قابلت المرحوم الملك الحسين ورحب بي، ثم أقسمنا اليمين، وبعد شهرين صار مؤتمر مدريد".
الطريق إلى مدريد لم تكن سهلة "كانت عملية صعبة"، وكان المطلوب تشكيل فريق من أربعة عشر مفاوضا، وهو لا يعرف من حدّد الرقم "كان لي شرف قيادة الوفد المشترك الأردني والفلسطيني، قبل تشكيل الوفد، طلبت من الملك الحسين أن اجلس معه، وأفهم ما نريده نحن من السلام".
لا يضيره ما يقال عما سمي فيما بعد "بحزب الوفد الأردني" قدحاً بأهل السلام، فالخيار لمدريد لم يكن خياره، وهو لا يقبل بأن يقال بأن الوفد كوفئ على مهمته بمدريد بمواقع متقدمة "باعتقادي أن العملية فشلت في مدريد نفسها، في يوم الجلسة الافتتاحية عقد اسحق شامير مؤتمرا صحافيا قال فيه: أننا سنفاوض العرب لمدة عشر سنوات من دون أن تؤدي المفاوضات لشيء، ولم أصدقه أبدا، اعتقدت أنها مزايدات، فهم يرفضون وضع حدود على أنفسهم، واليوم اعترف أننا لم نكن نعي ما ذهبنا إليه". ومع ذلك لا يشعر الرجل بالندم على طريقه لمدريد، وهو منسجم مع ذاته كثيرا عكس الآخرين من فريق مدريد.
في العام 1997 صار عينا، ولم يطل البقاء، إذ استقال لما عين مديرا للمعهد الدبلوماسي وظل فيه حتى العام 2001، من ثّم عاد للواجهة مرة أخرى في حكومة علي ابو الراغب مع تأسيس المجلس الأعلى للإعلام.
تجربة المجلس فشلت، برأيه، لأسباب منها أن قانون المجلس الـ74، كان متقدما على حالة البلد "حكيت لدولة أبو الراغب في أول لقاء بأن القانون الذي شكل بموجبه المجلس لا تتحمله الحكومة والدولة". ومع أن المجلس استمر بعد استقالته إلا أنه "بقي يعرج" وتبين صحة ما أكده الرجل عندما تم إلغاؤه.
سبب الفشل عنده في المنظور الأمني، الذي كان آنذاك مسيطرا على الإعلام، ليس كحال اليوم، والقانون كان متقدما على اللحظة التي كانت تمر بها البلد، والسبب الثالث أن الدولة محتارة بين الحاجة لوزارة إعلام أو مجلس أعلى للإعلام.
كتب، وأبحاث الرجل كثيرة وجلها باللغة الانجليزية، منها كتابه الأخير sheep land. دُرّسَ في جامعات هونج كونج، وكالجري بكندا، وايميري، وأكسفورد، وغيرها.
تزوج العام 1957 من السيدة لوريتا من أصل طلياني مولودة في أميركا "صارت بدوية كركية فلسطينية وكل يوم تصحّيني وتشتم الإسرائيليين، وأنجبنا ابنتين، ليندا وهي طبيبة، والصغرى نائلة وقد درست لغات".
رحمك الله ايها الطيب الندي الكريم، حيث كنت دوما أردنيا عربيا متصالحا مع ذاتك، حبورا بالدينا ورضيا بها، فسلام الله عليك أيها الكريم النبيل.
الدستور