وجبة دسمة من أخبار العنف حفلت بها صفحات الجرائد خلال الأسبوعين الماضيين أورد لكم بعضا من مقتطفاتها .. انتحار أستاذ جامعي معروف بعد أن قام بإطلاق النار على نفسه .. امرأة تقوم بتقطيع زوجها إلى أشلاء وترميه على قارعة الطريق ( هذا الخبر في الأردن كي لا يذهب ذهنكم إلى بلدان أخرى ) .. مشاجرة جماعية في وادي السير نجم عنها وفاة وعدة إصابات .. سيدة تقتل جارتها من اجل خمسة دنانير .. مجموعة من الأهالي يعتدون على أحد المدارس ويضربون المدرسين , و الكثير الكثير من هذه الأخبار التي جاءت خلال مدى زمني قصير مما يجبرنا على الوقوف وتفحص هذه الظاهرة التي بات تصاعد وتيرتها مقلقا ودلالاتها جد عميقة .وتقتضينا الأمانة أن نقول أن بذرة العنف موجودة في أدبياتنا وتراثنا المنقول شفاهة , فعقلية " رد الصاع صاعين " و " اللي برشك بالمية رشه بالدم " تفعل فعلها في تكوين العقل الجمعي والثقافة المتوارثة , إلا أن ما تحصن به مجتمعنا الأردني خلال ماضيه من التزام بأحكام وروح الشرع الإسلامي الذي كانت أهم ثمراته القانون العشائري الأردني الذي هو وسيلة فريدة من نوعها على مستوى العالم لحل المشاكل العالقة بين الأفراد والجماعات , هذا الالتزام ساهم بتقليل معدلات العنف وساهم في إحكام العقل في أي نزاعات مستجدة . ومع ذلك كانت تقع جرائم ضمن الحدود الطبيعية للاجتماع الإنساني على فترات متباعدة دون أن تعتبر ظاهرة تستحق الدراسة والتأمل .
فما الذي حدث إذن ولماذا علينا أن نطيل التأمل ؟ برأيي أن المستجدات الاقتصادية والنفسية لها دور مؤثر وفاعل في هذا المجال .
فإذا أردنا الحديث عن الوضع الاقتصادي للمواطن الأردني , فلن يخفاكم ما يتعرض له المواطن من ضغوطات مالية شديدة جعلت أولويات الحياة من مأكل ومشرب حلما صعب المنال عند شريحة واسعة , وخذوا تقرير الايكونومست الذي صدر قبل يومين حول ترتيب مدن العالم من حيث غلاء المعيشة تجدوا أن عمان احتلت المركز سبعين على مستوى العالم و تصدرت قائمة المدن العربية متقدمة على مدن مثل دبي وأبو ظبي والرياض , ولعل التقرير الذي أغفل على ما يبدو متوسط دخل الفرد في كافة المدن التي شملتها الدراسة لم يقدم لنا الحقيقة كاملة , فهو قد جرعنا نصف الكأس المر دون أن يذكر شيئا عن النصف الآخر الذي لو تمت الإحاطة به بالمقارنة مع غلاء المعيشة لوجدنا أن عمان ستحل حتما في أحد المراكز الخمسة الأولى وليس المركز 70 .
وللذين يحبون لغة الأرقام أقول أن متوسط دخل الفرد في أوسلو التي احتلت المركز الأول عالميا يبلغ أربعة وثلاثين ألف دولار أمريكي سنويا , بينما يبلغ في طوكيو ( الثانية عالميا ) أربعين ألف دولار , وفي دبي ( المركز 71) عشرين ألف دولار بينما هو في عمان ( المركز 70) ألفان وخمسمائة دولار أمريكي سنويا .
أما الناحية الديموغرافية فقد لعبت دورا أكيدا على الصعيدين الاقتصادي والنفسي , فهذا العامل الذي ساهم في ارتفاع أسعار العقارات والأراضي أثر من ناحية أخرى في البنية الاجتماعية التي استوعبت خلال سنوات قليلة طوفانا بشريا هائلا من العراقيين يقدر بمليون عراقي أثروا وتأثروا ببنية المجتمع الأردني , ولا شك أنهم بضغطهم على حيز المكان المحدود قد نقلوا مفاهيم جديدة منها ما هو سلبي يتعلق بالجريمة والعنف وغيرها من سمات النفس الإنسانية .
وقضية العراقيين هذه تلفت نظرنا إلى وضع المنطقة والتحولات السياسية في العراق وغيره من دول المنطقة التي باتت ملتهبة بحروب أهلية شرسة في أقرب النقاط إلينا كفلسطين والعراق , بالإضافة إلى الاحتلال الأمريكي الجاثم على أرض الرافدين وما يتخلله من عمليات تصفية وقتل بالجملة وتفريخ للمنظمات الإرهابية التي عاثت في الأرض فسادا , فامتلأت نشرات الأخبار بصور القتل والدمار , أحيانا بالعشرات وأحيانا أخرى بالمئات , فتعودت العيون على منظر الدم وألفت أخبار القتل الذي أصبح سهل القبول وبات البعض يراه نشاطا يوميا عاديا .
نحن نعاني من العنف والتطرف يا سادتي وناقوس الخطر يجلجل بقوة , حتى برامجنا وأخبارنا العادية فيها من التطرف الكثير , تطرف في مفهوم الجمال .. شد ونفخ وشفط .. وكأننا نبحث عن الكمال بل عن أقصى درجات الإشباع في هذا الميدان , أيضا نعاني من تطرف في الرياضة فمعاركها الشرسة لا تخفى عليكم , ونعاني من تطرف في أسواق المال التي باتت تتقلب بشكل غير مفهوم ضرب بعرض الحائط جميع نظريات الاقتصاد ومبادئ العرض والطلب .. أشياء كثيرة مستجدة وغير مفهومة نعايشها يوميا فتترك أثرها النفسي وضغوطها الشديدة علينا جميعا بدون استثناء .
ما أحوجنا إلى محلل نفسي متفرغ لكل واحد منا , يداوي آهاتنا ويستخرج عقدنا التي فرضها علينا الزمان والمكان . محلل نفسي لا نخاف منه , يعالج أول ما يعالج اتهامنا كل من يراجع طبيبا نفسيا بالجنون والعته , فهذا أيضا تطرف وعجز عن مواجهة مشاكلنا النفسية .
وأخيرا أقول أن هذه نظرة للواقع من شخص غير متخصص في مجال الجريمة , وما هي إلا محاولة للفت الأنظار إلى ظاهرة بدأت بالتصاعد مؤخرا , وهي دعوة إلى المؤسسات المختصة و أساتذتنا الأفاضل من علماء الاجتماع وأطباء النفس للغوص في الموضوع قبل أن يستفحل شره ويعم بلاؤه