فللتذكير في تداعيات أزمة الطاقة بعد حرب 1973 والمقاطعة العربية للغرب في مرحلة التزود بالنفط العربي؛ فقد قامت أمريكا والنرويج وغيرها في حينه بالإهتمام بمصادر الطاقة الأخرى بحثا عن (ترف) الأسعار، فكان الإستثمار في أمريكا في البترول الصخري (Shale Oil) أو ما يعرف ببترول (غرب تكساس) مجديا يوم تعدى سعر النفط حاجز 30-40 دولار/برميل، مما أدى إلى جدوى الإستثمار في هذا المصدر لأنه مصدر سطحي وأسهل للإنتاج، فكانت وما زالت عدد الشركات الأمريكية المهتمة بهذا النفط في تزايد، ولها (لوبي) مؤثر في صنع السياسة الأمريكية الخارجية.
البترول في أمريكا يُوجِّه (إفتعال) الأزمات فتارة مع إيران واكرانيا، وتارة أخرى مع دول الخليج العربي لخلق مجال للحرب، لأنه هو المحرك (الدينامو) للإقتصاد، حيث أنه وبكل بساطة أحد الأعمدة الرئيسية للنمو الإقتصادي؛ وبالتالي إذا هبط البترول هبط الإقتصاد.
في أمريكا، وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) هي الأكثر إستهلاكا للطاقة، وبالتالي فإن بترول غرب تكساس (البترول الصخري) هو المَورد الأساسي للبنتاغون، وحتى اللحظة فإن أسعار البترول المخفضة هي هدفا للسوق الأمريكي من أجل الإستهلاك والحفاظ على نفطهم للأجيال القادمة. وكمعلومة فإن المستفيد من التخفيض في الإنتاج العالمي للنفط هي أمريكا، لأنها لا تخفض إنتاجها؛ لا بل (تجبر الآخرين) على التخفيض.
لقد بلغ الإنتاج العالمي للنفط ما قيمته (100-105) مليون برميل/اليوم، في حين بلغ معدل الإستهلاك العالمي من النفط وحتى شهر شباط من هذا العام (80-90) مليون برميل/اليوم، إذن فأزمة النفط لاحت بالأفق (قبل) كورونا، وكان أحد أسبابها إنكماش السوق العالمي أي عدم نمو الإقتصاد بمعدلات سريعة، واستخدام التكنولوجيات الحديثة لأجهزة ومعدات كفاءة الطاقة ونظم مصادر الطاقة المتجددة لتعطي نفس الإنتاج لكن بفاعلية وكفاءة أفضل، حتى وصل العالم قبل الجائحة إلى معدلات إستهلاك (70) مليون برميل/اليوم، وكان الإنتاج العالمي كما أسلفت يعادل قرابة (100) مليون برميل/اليوم. أشير إلى أن منظمة الأوبك تستحوذ على (25)% من السوق العالمي للنفط المنتج، في حين تعتبر أمريكا أكبر منتج خارج أوبك وتشاركها النرويج بحصة الأسد بنسبة تصل إلى (75)% من السوق العالمي.
المؤشرات الأساسية لأسعار النفط محصورة في عدة عوامل رئيسية هي: نسبة النمو الإقتصادي ونسبة بيع المنتجات الثانوية المصنعة في مصافي البترول، المنافسة والمزاودة أو ما يعرف بـ (Speculations)، والإستطاعة التخزينية المتاحة (Spare Capacity for Storage) وعامل عدم القدرة على الإدارة الفعّالة لمنظمة أوبك، إلا أنني أضيف لها شخصيا عامل حاسم آخر بناءً على ما يجري في السوق؛ وهو موضوع (الكورونا)..
جميع ما ذكرته في أعلاه يقودنا إلى مشاهدة (صراع أو تَحدِّ) عالمي نفسي داخل قادة العالم... فهل الإقتصاد أولوية أم الصحة في ظل السوق السياسي للبترول في أمريكا وأوروبا؟ أم ضرورة الموائمة بينهما؟ حيث كنا وما زلنا جزءً من هذا التحدي، وقد يسأل سائل: هل أثرت أزمة وباء (أيبولا) في 2008 على أسعار النفط في حينه؟ الجواب: نعم فقد إنخفضت أسعار النفط إنخفاضا حادا وانهارت الأسواق، ولكن بدأت بالتعافي دون أن تأخذ شكلا آخر بسبب (عدم وجود) آثار صحية مباشرة كما هو الحال الآن في موضوع (الكورونا).
وعودة للشأن المحلي؛ فقد إستفادت الأردن من الجائحة شأنها شأن العديد من الدول الفقيرة والتي تعتمد إقتصادياتها على إستيراد النفط، كما تعتبر أسعار المشتقات النفطية حافزا لجلب الإستثمار في القطاعات الرئيسية في المملكة؛ مثل: القطاع الصحي والزراعي وقطاع تكنولوجيا المعلومات والإتصالات(ICT) والصادرات النفطية الصناعية مما قد تعتبر سببا رئيسيا في إعادة النظر في إتفاقيات شراء الطاقة الكهربائية، كما وأن توفر سيولة في البنوك للإقراض المتاح بغرض الإستثمار والبالغ بحدود (4-3.5) مليار دينار يعتبر مؤشرا لحفز مؤشر التشغيل والحد من البطالة، والتي وصلت إلى 19% مع ملاحظة أن الحكومة قد قامت مؤخرا بإقتراض ما نسبته 60% من أموال الضمان الإجتماعي.
وللعلم فقد توقع البنك الدولي حسب آخر نشراته إنكماشا في الإقتصاد الأردني بنسبة تصل إلى 3.5% خلال العام الحالي، كما توقع أن تصل نسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي(GDP) إلى 108.5% خلال العام المقبل، أمام مديونية مرعبة تصل إلى 42 مليار دولار بشقيها الداخلي والخارجي!.
بقي أن أقول، إلى أن وباء الكورونا قد أسقط ورقة التوت عن الإقتصاد العالمي (الهش) ونحن جزء منه، والمرحلة القادمة ستتغير فيها جميع مفاهيم العمل الإقتصادي، حيث البقاء والصمود للأفضل، مما يستدعي البحث عن إجراءات وخطط للنمو الإقتصادي خارج الأطر التقليدية المعتادة، أي البحث خارج الصندوق!! لأن العالم وحتى إشعار آخر يمر في أزمة، فهل الحكومة الرشيدة بتشكيلتها الحالية قادرة على تحمل هذا التحدي؟ وحيث أن الضرورات تبيح المحظورات.. فهل بات وشيكاً إعادة النظر في إتفاقيات شراء الطاقة الكهربائية بناءً على هذه الظروف القاهرة الملحة؟ وهل ستقوم الحكومة ومن خلال وزارة الطاقة بتقدير قيمة (فروقات فوات الكسب) في هذه الإتفاقيات المعقودة بناءً على الأسعار الحالية للنفط، ولوضعها أما صاحب القرار لإتخاذ القرار المناسب في هذا الشأن؟ فإن كان الجواب (لا)؛ فمن إذن سيتحمل المسؤولية في عدم تضمين (بند/بنود) في هذه الإتفاقيات لتضمن حقوق الإقتصاد الوطني والخزينة العامة ضد مبدأ (Take or Pay) الوارد في نصوص هذه الإتفاقيات، ولعدم هدر المال العام من خلال الإجحاف بحقوق الوطن والمواطن؟!.
"حمى الله الوطن والقائد وحماكم جميعا"