سلسلة تاريخ الحكومات الأردنية على امتداد نصف قرن 5
د.هايل الدهيسات
02-02-2010 11:17 PM
كانت حياة جلالة الملك الحسين بن طلال رحمه الله على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين تمثّل جزءًا من كفاح الهاشميين من أجل نصرة الإسلام والحفاظ على مقدساته والسّعي إلى عزة الأمة العربية وتحقيق حريتها ووحدتها،، ويلخص الراحل الحسين مآثر مسيرة ملوك الهاشميين في العطاء والحرص على حاضر ومستقبل الوطن والأمة العربية جمعاء، بتلك الكلمات: "لقد دفن جدي الأكبر في القدس ومات جدي على مرأى مني في القدس أيضًا.. وإنني أنتسب إلى الجيل الرابع من أولئك الذين ناضلوا في سبيل الحرية والاسترداد الكامل لترابنا الوطني..".
بعد أن كنا قد تحدثنا في المقالة السابقة "السلسلة الرابعة" أن دولة السيد إبراهيم هاشم استهل مقاليد الحكم في وزارته الخامسة أثناء ساعات الصباح الباكر من يوم 25 نيسان لعام 1957، حيث استمرت حكومته حتى 18 أيار 1958 وهو اليوم نفسه الذي بوشر فيه بتأليف حكومة الاتحاد العربي برئاسة دولة السيد سمير الرفاعي.
جاءت فكرة الاتحاد العربي الهاشمي منذ أن بدأت السياسة الأردنية الخارجية بالتحول نحو العراق على أثر السياسة التي انتهجتها مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر بالضغط على الأردن، والتدخل بمشهده السياسي عن طريق الجبهة الداخلية، وفي الوقت نفسه نجح التحالف السياسي الاشتراكي السوري المصري بإعلان الجمهورية العربية المتحدة في الأول من شباط عام 1958 عندها بادر الملك الحسين بن طلال بتوجيه رسالة إلى جلالة فيصل الثاني ملك العراق يدعوه فيها إلى زيارة الأردن للتشاور في فكرة إنشاء الاتحاد العربي.
كان فيصل الثاني ملك على العراق وهو ثالث وآخر ملوكها من الأسرة الهاشمية، وهو الإبن الوحيد للملك غازي بن الملك فيصل الأول بن الشريف الحسين، ففي 2 أيار عام 1953 اكمل الملك فيصل الثامنة عشرة من عمره فانتهت وصاية خاله عبد الإله على العرش بتتويجه ملكاً دستورياً على العراق، واستمر في الحكم حتى استشهاده عام 1958. كان قد تزامن تتويج الملك فيصل الثاني على العراق مع تتويج إبن عمه جلالة الملك الحسين بن طلال رحمه الله ملكاً على الأردن.
وهكذا بعد محادثات مستفيضة بين عمان وبغداد تم التوصل إلى إعلان الاتحاد العربي، وصدر بيان في كل من العاصمتين في الرابع عشر من شباط عام 1958 أعلن بموجبه رسمياً عن تأسيس الاتحاد العربي تتويجاً لجهود الهاشميين السابقة واللاحقة التي بُذلت في سبيل الوحدة، واستجابة للأماني القومية التي انبثقت عن إرادتهم في السعي نحو الحرية، مستندة لماضيها المجيد وإيمانها بذاتها وبرسالتها القومية والإسلامية التي انتقلت إلى الأحفاد جيلاً بعد جيل لتبقى المشعل الذي يرشد الأمة نحو أمانيها بالمحافظة على تاريخها العريق ومقدساتها تطلعًا إلى مستقبلٍ زاهرٍ أكثر اشراقًا.
تولت حكومة الاتحاد العربي -برئاسة دولة السيد سمير الرفاعي- مهامها السياسية الداخلية والخارجية، ولكن الانقلاب العسكري الذي وقع في العراق يوم 14 تموز 1958 أدى إلى فصم عرى ذلك الاتحاد، وقد مرت الأردن بفترات عصيبة أثناء تلك الأحداث، ولكن حكومة الرفاعي الخامسة استطاعت أن تسيطر على رياح تلك الفترة العاتية إلى أن قدمت استقالتها يوم 5 أيار لعام 1959.
في الأثناء تآلفت حكومة دولة الشهيد هزاع المجالي الثانية في 6 أيار لعام 1959, وكانت قد تقدمت ببيانها الوزاري يوم 3 حزيران عام 1959 واتخذت سياسة تستهدف تحقيق رسالة الملك حسين بن طلال رحمه الله في كتاب التكليف السامي، والتي تضمنت الاستقرار للأردن وخدمة الأمة وتوفير الخير لها ببذل الجهد في سبيل البناء الحضاري، واستثمار الموارد الطبيعية للمملكة وتشجيع الصناعة والسياحة وتأمين العدالة الاجتماعية والمساواة الكاملة بين كافة المواطنين.
شهد عام 1960 استمرارًا للتجارب.. وبداية لأحداث مريرة في تاريخ الأردن الحديث كان أهمها ما جرى يوم 28 آب 1960، حيث وقع انفجار ضخم في مبنى رئاسة الوزراء كان ضحيته استشهاد المرحوم رئيس الوزراء آنذاك هزاع المجالي وعدد من كبار الموظفين والمراجعين في الوزارة. ويرسم لنا الملك الحسين تلك الواقعة في أحاديثه الملكية..
"كنت في مزرعتي في الحُمّر، عندما قرع جرس الهاتف في حوالي الساعة الحادية عشرة، وفي الطرف الآخر من الخط تعرفت على الصوت الحزين لمدير مكتب هزاع المجالي. كانت الجملة التي تلفظ بها وقتئذ موجزة وجافة بحيث أصابني الجمود: "يا صاحب الجلالة. إن مكتب رئيس الوزراء قد انفجر، وهزاع باشا قد قتل..
تذكرت وأنا أستعد للخروج، سرور هزاع المجالي في مساء اليوم السابق عندما أعرب لي عن ارتياحه لرؤية السلام وقد عاد يخيم على الأقطار العربية.. كنت وراء عجلة القيادة في سيارتي بعد بضع لحظات.. وانطلقت باتجاه عمان، اعترضت طريقي سيارة خرج منها وزير الدفاع، ثم وصلت سيارة أخرى كانت تقل حابس المجالي القائد العام للجيش..
قال لي حابس المجالي: يا صاحب الجلالة إننا لن ندعكم تتابعون سيركم مهما كلف الثمن. إنكم لن تستطيعوا عمل أي شيء ألان، فقد انتهى الأمر.. رفض الجنرال المجالي ووزير الدفاع مرة أخرى أن أذهب إلى مكان الحادث، ولكنهما اقترحا أن أذهب إلى القصر.. دعوت فوراً أعضاء الوزارة إلى اجتماع غير عادي لتشكيل حكومة في أقرب وقت..
لم يكن من السهل استبدال رجل كهزاع المجالي. وقد وقع اختياري على رئيس ديواني بهجت التلهوني.. بقي معظم وزراء هزاع المجالي في مناصبهم.. وقد واصل دولة بهجت التلهوني المهمة نفسها والبرنامج نفسه كسلفه الذي كان خير صديق له طوال سنوات".
تألفت حكومة بهجت التلهوني الأولى في 29 آب عام 1960 وتقدمت في بيانها الوزاري يوم 8 تشرين الثاني لعام 1960 واستندت بذلك على خطاب العرش والذي جاء ليركز على ضرورة رفع المستوى المعيشي للمواطن ودعم الاقتصاد الوطني والتعاون بين السلطات وتأسيس كلية زراعية والعناية بالقوات المسلحة والحرس الوطني.. إضافة إلى الاهتمام بالسياسة الدولية بالتركيز على الأمم المتحدة فضلا عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية وقضية الجزائر على الصعيد العربي. وتقدمت حكومة التلهوني الأولى باستقالتها يوم 28 حزيران لعام 1960.
وفي اليوم ذاته الذي قدم فيه التلهوني استقالة حكومته الأولى كلف بإعادة تأليفها حيث أشرفت حكومته على إجراء الانتخابات في 22 تشرين الأول لعام 1961 "لمجلس النواب السادس" وتقدمت الحكومة ببيانها الوزاري يوم 15/11/1961 حيث أكد البيان على ضرورة وضع برنامج للتنمية الاقتصادية لتحقيق الاكتفاء الذاتي وعلى ضرورة تنظيم الجهاز الإداري ووضع نظام الخدمة المدنية المؤقت.. وتوسيع مظلة الخدمات الطبية فضلا عن بث روح الثقة والتعاون بين الشعب ورفع المستوى المعيشي للمواطنين.
وعلى صعيد السياسة العربية تناول البيان القضية الفلسطينية وقضية الجزائر.. كما توجه البيان بانتقاد حاد لموقف الجمهورية العربية المتحدة بسبب ما تحيكه من دسائس ومؤامرات للنيل من استقرار وأمن الأردن.. وهكذا نكون قد ألقينا بعض الأضواء على المشهد السياسي لتاريخ الحكومات الأردنية منذ تولي الملك الحسين بن طلال رحمه الله سلطاته الدستورية، من خلال مقالتنا هذه التي تمثل السلسلة الخامسة من قراءة المشهد السياسي لتلك الحقبة الزمنية على أمل استكمال السلسلة إن شاء الله.
د.هايل الدهيسات
كاتب وباحث
dr.hayel66@yahoo.com.