الاردن و الخط الحديدي الحجازي
أ.د. سعد ابو دية
02-02-2010 08:55 AM
الخط الحديدي الحجازي تتويج لفكرة قديمة عاشها الأردن أكثر من غيره وهي الربط بين مكة والشام. وورد في القرآن الكريم رحلة الشتاء والصيف وفي تفسير ابن كثير أن رحلة الصيف إلى الشام والأردن في جنوب بلاد الشام وعلى طريق القوافل بين مكة والشام وهي الطريق التي تفصل البادية عن البلاد الخصبة في مستطيل تقع فيه مدن الأردن الكرك وعجلون والطفيلة والسلط واربد.
سر الشخصية الاردنية:
ارتبطت الشخصية الأردنية بهذا الموقع ففي طباع الأردني شخصية المضيف وصاحب البيت التي ليس عندها حساسية للغرباء. عاش الأردن في هذه الأجواء تاريخياً واعتمد اقتصاده على الزراعة والتجارة على طريق القوافل والحج وفي بعض مدن الأردن كانت تقام مراسم أدبية تجارية وعثرت مرة على مقامة أدبية لأديب تونسي : محمد السنوسي قالها في بعض المدن الأردنية معان في هذه المواسم.
الفكرة:
جاءت فكرة الخط الحديدي الحجازي بالنسبة للأردن تتويجاً لتراث تاريخي قديم عاشه الأردن بكل جزئياته ابتداء من عهود معين وسبأ وكانت تجارتهم تصل إلى الشام. وفي دراسة للأستاذ الكبير (موزيل) Musil أستاذ الدراسات الشرقية والعربي في النمسا في مطلع القرن العشرين ذكر لنا أن الطريق الذي يمر من العقبة إلى الشمال بين البدو والحضر كان يحمل اسم الطريق العربي. يستفاد من ذلك بأن المنطقة ما بين جنوب الجزيرة العربية وحتى شمال بلاد الشام كانت من عهود معين وسبأ طريقاً للقوافل وأن السبأيين والمعينين تعاملوا مع هذه المنطقة بواسطة مقيم من سبأ وحمير والمقيم هو (قنصل) بكل معناها إذ أن دوره هو دور قنصل مائة بالمائة.
وفي وقت لاحق فإن قريش بنت أمجادها على التجارة بالإضافة إلى مكانة مكة الدينية. كانت التجارة مكملة لدور قريش في مكة نفسها ولقد أخذ بنو أمية وظيفة هامة من الوظائف التي وزعتها قريش على بطونها ومنها قيادة القوافل وهذه أعطت بني أمية خبرة في الشام مكنت معاوية أن يدير بلاد الشام لاحقاً بعد أن عمل والياً ثم خليفة مقر خلافته دمشق.
بنوامية والاردنيون :
وساهم زواج معاوية بأردنية من البادية (ميسون) أن يهتم أبنائه وأحفاده ببناء قصور أموية في البادية الأردنية ما زالت حتى اليوم تحكي لك سراً من أسرار الخلفاء وسبب اهتمامهم بالأردن. لقد ازدهر هذا الطريق في العصر الأموي قبل أن يحل به الخراب في العهد العباسي إذ أصبحت بغداد هي مقر الخلافة وأصبح عصب المواصلات ما بين بغداد ومكة ولكن ظل لهذا الطريق القديم الذي ربط بين بلاد الشام ومكة سحره الخاص وفي العهد العثماني عاد لهذا الطريق مجده وأخذ العثمانيون في بناء القلاع على طريق الحج الشامي.
فكرة الخط الحديدي الحجازي:
عاش السلطان عبد الحميد الذي تولى الحكم عام 1876 أجواء التضامن الإسلامي وتعزيز قوة الدولة بعد أن تقلصت ممتلكاتها في أوروبا بدا السلطان بفكرة الاستقلال المالي عن أوروبا ومع ذلك تحالف مع دولة أوروبية كبرى مثل ألمانيا لتحقيق أهدافه الداخلية.
ولكن الأهم الذي لا ينتبه له الناس العاديون هو أن السلطان كان يعيش مع بطانة عربية سورية أبطالها (شخصان) هما عزت باشا العابد وهو دمشقي وأمين سر السلطان والثاني الشيخ أبو الهدى الصيادي من قرى حلب. كان الاثنان يشجعان السلطان عليها ويؤيدان الفكرة.
ملاحظة: عرف الأردن ابن أبو الهدى الصيادي وهو (خالد) الذي استلم رئاسة الوزراء في الأردن في عشرينات القرن الماضي ولكن شتان ما بين الابن والأب.فالابن ضعيف وغير مبدع ولامبادر
بداية تنفيذ الفكرة:
بدأ تنفيذ الفكرة في تشرين الأول 1899 على أساس أن يبدأ من دمشق إلى مكة المكرمة ثم إلى جدة بتكاليف عشرة ملايين جنيه. تشكلت لجنة الخط في الأستانة وبدأ العمل في الخط بأربعين مهندساً نصفهم من العثمانيين المساعدين والباقي ورئيسهم من الأجانب. ترأس العمل مايسنر الألماني هو المشرف على الخط من دمشق حتى مدائن صالح, واستلم العمل بعد ذلك مختار باشا. لقد منح السلطان عبد الحميد مايسنر لقب باشا.
ملاحظة:
كان واحد من المهندسين نظيف باشا الخالدي, أحد أبناء القدس الذي أخذ جبل النظيف اسمه منه. لقد كان يُعسكر في الجبل ويراقب سير العمل ومن هنا عرفت تلك المنطقة بجبل النظيف. وفي عام 1990م كان سفير تركيا في الأردن أحد أحفاد واحد من المهندسين الأتراك وفي منزلي اجتمع الحفيدين (عادل الخالدي) السفير السابق بوزارة الخارجية و(اكتاي أوكسوي) سفير تركيا في الأردن.
تمويل الخط:
اعتمدت الدولة في التمويل على المصادر التالية:
1.التبرعات: وبدأ السلطان عبد الحميد التبرع بخمسين ألف ليرة وكان هذا التبرع حافزاً للرعايا الأغنياء إذ تبرع احدهم بـ 10.000 ليرة دون أن يسمح لأحد بذكر اسمه. ووصف (محمد كرد على) أحد الذين كتبوا عن الموضوع في تلك الفترة ذاكراً بالنص ما يلي:
[ وتلكأ بعض مما جرت عادتهم أن يكونوا أول الباذلين في كل ما تريد الدولة القيام به من الأعمال لأنهم كانوا في شك من إتمام العمل ولما أخذت إمارات الهمة تبدو حيناً بعد آخر أخذ الهنود والمصريون يشتركون في مد يد المعونة وقد جاء بعض المكتتبين بليرة أو ليرتين لكل كيلومتر ودفع بعضهم عشرة الآف جنيه دون أن يعرف اسمه].
وبالرغم من أن المعتمد البريطاني (كرومر) في مصر حاول منع فرض ضريبة على المواطنين المسلمين في مصر مقدارها خمسة قروش فإن الإعانات تدفقت من مصر وغيرها من سوريا والهند.
لقد دفع الناس التبرعات كما وصف الوضع باشتياق... وكانت نهضة رجل واحد.
وفرضت الدولة ضرائب على امتيازات المعادن والأراضي الأميرية وجمعت ريع من كل شيء يخطر ولا يخطر ببال مثل أثمان جلود الأضاحي.
لقد كلف كل كيلومتر (1500) جنيه بما في ذلك المحطات وأحواض المياه وغيرها. هذه أقل قيمة أنفقت على خط حديدي في العالم.
كان الجندي يتقاضى قرشاً عن كل متر مكعب. كان الأجر يزيد إذا كانت الأراضي صخرية ووصلت أجرة الجندي إلى جنيه والضابط (4) أربع بارات. وأخذ المدنيون نفس الأجرة واشتركت الدواب. كان العامل يحفر ويحضر معه دابته ولها اجر.
بلغ عدد الجسور على الخط (950) جسراً بما فيها الجسور على فروع الخط وهي في وادي اليرموك ووادي الأردن.
وبلغ عدد الأنفاق ستة أنفاق تراوح طولها بين (40-170) وتم إنشاء خطوط فرعية :
حيفا – عكا
درعا- بصرى
القدس- بير السبع (؟)
عنزية- الشوبك
وعمل مع المهندس (مايسنر) 450 جندياً و (500) عامل من غير الجند تركز عملهم مابين دمشق وعمان ثم ارتفع إلى (1000) ثم (5700) وكانت الدولة تحفز الجنود على العمل مقابل تخفيض الجندية الإجبارية وتصبح ثلاثة أعوام بدلاً من أربعة، وكانت تعطيهم أوسمة وعلاوات وترقيات.
المعنويات العاليه:
لقد ساهم كل هذا الجهد والتعاون في رفع معنويات الناس وعندما وصل الخط إلى المدينة رفعت الناس مختار باشا على الأكتاف واقسموا أن يمدوا الخط إلى حضرموت. والواقع أن هذه المعنويات كانت تترجم ترجمة عملية كانوا يمدون في اليوم أحياناً ثلاثة كيلومترات (كمعدل).
إنجاز عظيم:
كان للخط إنجازات غير عادية مثلاً خدم الحجاج كانت الرحلة من دمشق إلى المدينة تستغرق وقتاً طويلاً على هذا النحو"
40 يوم من دمشق إلى المدينة.
10 أيام في مكة
20 يوم زيارات
50 يوم في العودة.
ــــــــــــــــ
المجموع 120 يوم من المدينة إلى دمشق (والعكس).
فأصبحت الرحلة كما يلي:
56 ساعة يمر فيها القطار على المحطات.
التأثير الاقتصادي :
ومن الناحية الاقتصادية نشط الخط الزراعة ونقل الحبوب والماء وكانت دمشق ستصبح طريق الحج للحجاج القادمين من القوقاز وفارس واليمن الأسود وفلسطين ولبنان وتركستان وفارس.
ومن ناحية الهجرات فإن الخط أثر على حركة العمال وارتفع عدد سكان حيفا مثلاً من (6000) عام 1880 إلى (22.000) عام 1914.
وارتفع عدد سكان معان مثلاً بسبب إقامة محطة إصلاح للقطارات. وهذا العامل الاقتصادي وفتح باب الرزق أثر في علاقات السكان مع الخط وهاجر الأردنيون على طريق الخط إذ أصبحت تجد في المفرق من جنوب الأردن بسبب الخط.
ملاحظة:
كان مبنى محطة الخط في معان جميلاً وسكن فيه عندما جاء الأردن عام 1920م الملك المؤسس عبد الله بن الحسين قبل أن ينتقل إلى نفس المدينة.
وفي عمان اختار الملك المؤسس منطقة (ماركا) ليقيم فيها وهي تطل على محطة سكة الحديد ومنطقة جميلة أقيم فيها معسكر المحطة وشيد الملك المؤسس في أول مدرسة عسكرية في عمان وسماها (الفتح) وما زالت حتى الآن.
وأخيراً:
مرت مائة سنة على افتتاح الخط الحديدي الحجازي في 1/9/1908م عيد جلوس السلطان العثماني ووصل الخط إلى معان في يوم 1/9/1904م وبالرغم من أن الخط يعتبر امتداداً لطرق القوافل وطريق الحج فإنه له قيمة حربية وإستراتيجية واستخدم في نقل الجنود لمواجهة بعض الحركات المحلية كما أنه نافس قناة السويس.
وبقي أن أقول أنه اذا كان إنجاز قناة السويس من أهم أعمال القرن التاسع عشر فإن افتتاح الخط الحديدي الحجازي هو من أهم أعمال القرن العشرين التنمويه على الإطلاق وتلاحظ أن طرق المواصلات هي أساس التجارة وأساس الاقتصاد السليم ولا عجب أن طلبت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وتقديم مشروع مارشال أن طلبت إصلاح المواصلات ولا يمكن أن يتقدم الاقتصاد خطوة دون هذه الأولوية العظيمة.