مشروع تذويب الهوية الوطنية
احمد عبدالله الحياري
22-05-2020 01:36 AM
ماذا بقي من الاردن؟ بقي الفضاء الذي لا يحدُّ. بقي الرمل. بقيت الريح تعصف وتذرا ..
بقي الحرُّ و العطش. بقي السراب. بقيت أعشاب وشجيرات تكافح، بمعجزة الطبيعة، ضراوة المناخ وماتبقى من الشعارات (أردن اخضر عام ٢٠٠٠). بقي كل ذلك لكن لم يبق أهل الاردن. فجأة تبخروا كما تتخبر قطرة ماء في الصحراء. عشرات القرون انطوت بطرفة عين. هؤلاء الذين قهروا الشمس التي تصب نحاساً مصهورا على الرؤوس، والليل الذي ترتجف في زمهريره الخيل، هؤلاء الذي روضوا الجوع والعطش، وآخوا الوحوش، ونجوا من آفة الانقراض عشرات القرون.. انقرضوا مع أول هبوب لرياح "المدنية" على الصحراء. مع مجيء الدولة راحت تحدد مساحات الحركة وتُسيِّج الحدود وتُرفع الأعلام ويصبح الترحّل، الطبيعة الأولى لأبناء الصحراء، محتاجا إلى جواز سفر وختم. الطائفة البشرية الوحيدة التي قضت عليها الدولة الحديثة هم البدو والسكان الاصليين لشرق الاردن من فلاحين ومسيحيين مشرقيين. فالفلاحون ظلوا فلاحين (إن أصبحوا عكس ذلك، فهذا قرارهم)، نواة التمدين توسعت وصارت نموذجاً للمستقبل الذي تسعى إليه الدنيا. لكن البدو لم يستطيعوا أن يتأقلموا مع الدولة. إما هم أو الدولة. فقبل الدولة كانوا هم دولة أنفسهم. هم حكومتها. هم الذين يضعون القانون ويحددون الحُكم وينفذون العقاب. بيد أن هذا لم يعد ممكناً مع الدولة التي تسعى إلى صياغة عقد اجتماعي لم يألفه البدو من قبل. التنازل عن جزء من حريتهم للدولة هذا جديد عليهم. لكن ما بدا صعباً، بل مستحيلاً، حصل من دون مقاومة تذكر: لقد تمكنت الدولة من تذويب البدو في بوتقتها الجديدة. لم يذوبوا تماما لكنهم لم يعودوا كما كانوا. أتحدث هنا عن الحالة الأردنية التي تشبه، على الأرجح، ما جرى في الشريط الطويل الذي كانت تعبره القبائل، من قبل، بحثا عن "الكلأ والمرعى" وفرارا من الثارات: شريط يمتد من بادية حمص في سورية وينتهي في هضبة "نجد" في ما يسمى اليوم "العربية السعودية"، مرورا بالأردن من جهة، وفلسطين التي ينتهي ترحال القبائل فيها إلى سيناء. جاءت الدولة الحديثة في العقد الثالث من القرن العشرين لتنهي تدريجاً حياة البدوِ وتؤذن بنهاية أسطورة الصحراء وتربط القبائل التي لم ترتبط من قبل إلا بمواثيقها وأعرافها بمواثيق وأنظمةٍ جديدةٍ لن يكونوا قادرين على مقاومتها والعيشِ خارجها طويلا.. أي باختصار جاءت الدولة الاردنية، التي تنهل هي، أيضاً، من مناهل ثقافية واجتماعية شبه بدوية، لتذويب العصبية الصغرى، أي العصبية القبلية، في عصبية اخرى ، هي عصبية الدولة.
لعل الإنجليز، بما عُرِف عنهم من دهاءٍ وصبرٍ يشبهانِ دهاء البدوي وقدرته على التحمّلِ، كانوا أكثر الذين عرفوا الصحراء العربية وعاشروا البدو، لذلك ربطوا البدو بالأميرِ مباشرةً، كشيخٍ أعلى لهم، لا بالدولة الناشئة نفسها، لا بالأرض. فالبدو لم يعرفوا، بالمفهوم الذي نتداوله الآن، الولاء لـ "وطن محدد". فليس لهم وطنٌ ثابتٌ أو أرض محددة لا يبرحونها، وطنهم هو، إلى حد كبير، عشيرتهم نفسها، وعالمهم هو عالم تحالفات أو عداوات العشيرة، ورُغم أن السلالة الهاشمية التي أسست الكيان الأردني عام 1921 ليست بدوية المنشأ، بل من الحجاز، الجزء الأكثر تمديناً في شبه الجزيرة العربية، إلاّ أنهم أعطوا البدو انطباعاً، دائماً، بأنهم مثلُهم... ومنهم.
هذا الانطباع عن "بداوة" الهاشميين عزَّز أكثر، عند بدو الأردن، بعدهم السلالي الديني، الذي، ربما، لم يكن كافيا، وحده، ليجمع حولهم هذه القبائل التي لم تعترف، من قبل، بسيادة أحد عليها بما في ذلك "الباب العالي"، ويغرس البذرة الأولى للدولة الأردنية. لم يكن البدو، عندما قرر الأمير عبد الله بن الحسين وضع النواة الأولى للكيان الأردني الحاضر، غريبين عن الهاشميين. فقد سبق لبعضهم الانخراط في تحالفات ومراسلات مع الهاشميين لطرد التتريك العثماني الجائر الذي قاده عودة ابو تايه، وعمل بمعية لورنس العرب لإخراج العثمانيين من الأردن وصولاً الى سورية. والطريف في الأمر أن التمردات الأولى على الدولة الأردنية الطالعة من رحم "سايكس بيكو" لم يقم بها البدو الرحل بل بعض البدو ك "العدوان"، أو فلاحون كالشيخ كليب الشريدة في منطقة الكورة، شمالي الأردن، فربما اعتبرت هذه القبائل المستقرة، إضافة إلى عشائر فلاحية، مجيء الهاشميين، بمن معهم من العرب، ومحاولة تشكيلهم زعامة وكيانا جديدا، تحديا لسلطتها على مجالها وإضرارا بمصالحها، ومصادرة للثورات المحلية كثورة قدر المجالي (الهية) بينما لم تر القبائل البدوية الصرف(الرحل) الأمر على هذا النحو، فهم يسيطرون على مجال لا ينافسهم عليه أحد (إلى حين طبعا): الصحراء
! لكن مع تمدد المدن الأردنية وتوطين البدو الذي تواصل على مدى نصف قرن، ثم مجيء مئات الآلاف من حاملي الجنسية الأردنية من الكويت، بعد حرب الخليج، وشراء بعضهم مساحات كبيرة من أراضي البادية الشمالية وتحويلها مزارع، صارت لهذه الأرض قيمة ولها مالكون استقروا فيها، نهائياً. وعليّ، هنا، أن أشير إلى أن البداوة بمعناها الإنتاجي لم تعد طراز حياة إلاّ لعدد قليل من الأردنيين بيد أن كل المتحدرين من أصول بدوية، حتى وإن كانوا يقطنون فيللا في عمان أو غيرها من المدن الأردنية، يعتبرون أنفسهم بدواً ويرفضون أية تسمية أخرى لأنفسهم.البداوة، هنا، أصل ونسب، ومن يتنكر لأصله فلا أصل له!هذا ما يمكن أن يقوله لك طفل من "العدوان" أو "الحديد" أو "العبابيد" وهي من أقدم القبائل الأردنية المتوطنة والمستقرة، نهائيا، في أمكنة غير صحراوية مثل البلقاء.ولعل هذا ينطبق، أيضا، على العشائر المسيحية سواء تلك التي تقيم في البلقاء أو الكرك.. وتفخر في اندراج جانب من ثقافتها في الفضاء البدوي
ويبدو أن الدولة الأردنية نجحت، على مدار السنين، في جمع متناقضين لا يجتمعان: ربط البدوي بالأرض أو الوظيفة الحكومية (...) مما ينفي عنه إحدى أبرز صفات البداوة ألا وهي الترحال، والإبقاء على قيمه الثقافية البدوية والاعتزاز بها. فالأردن الرسمي يفخر في كونه بدويا ولكنه، للمفارقة، بلا بدو فعليين. وهذا ما يمكنني أن أسميه: بداوة ثقافية. لم يتبق منها الا هذه الصورة المشوهة التي لا تحمل ملامحها ولا دلالاتها الا مزيدا من الإقصاء والتهميش للانسان الأردني.