في ذلك الصباح خرج من منزله متجهاً الى البنك لمراجعة حساباته هناك ومن ثم استقل سيارته متجهاً الى عمله وافكارشتى تروح وتجيء في ذهنه: رصيد البنك، ابنائه اللذين يدرسون في الخارج، زميله الذي استقال من العمل، الحر الشديد في ذلك اليوم من حزيران/رمضان، حاجيات المنزل التي سوف يشتريها عند العودة، ماذا ستطبخ له زوجته في ذلك اليوم وفجأة وبدون مقدمات احس انه ليس بصحة جيدة وانه قد فقد السيطرة على قدمه اثناء القيادة. قرر عدم الذهاب الى العمل وتوجه الى المنزل حيث حاول النزول من السيارة فانثنت ساقه من تحته وسقط على الارض غير قادر على تحريك الناحية اليسرى من جسده. تم تشخيص حالته على انه يعاني من سرطان الدماغ المتقدم المستفحل واخبره الاطباء والعم "جوجل" ان اقصى ما يعيشه المريض مع هذا السرطان هو سنة واحدة على الاكثر. قال في نفسه: "يا الهي كيف يحدث لي هذا وكيف انفجرت حياتي كما ينفجر بالون هواء سقط في بركان". اجتاحه غضب عارم اخذ يلوم العمل والاجهاد، اكتئب ثم خضع ثم رضخ للحقيقة. اقتنع ان الاسباب تعددت ولكن الموت واحد، اقتنع انه سيموت من السرطان او غيره فلماذا يحتج ولمن يحتج. اخبر نفسه ان 150 ألف انسان يموتون في هذا العالم يومياً، ماتوا ويموتوا وتستمر الحياة من بعدهم فماذا لو مات هو...ماذا لو اختفى هو واصدقائه وعائلته كلهم من الوجود...افلا يستمر الكون. هاهم ينقلونه الى غرفة العمليات وهاهو الموت بأجنحته يحلق خارج النوافذ وهاهو يدخل في رحلة الى المجهول. تعلقت نظراته بنظرات ابنه ونظر الى وجه زوجته فلم يجد غير الخوف والقلق.
بدأ يصحو بعد 6 ساعات من التخدير...سمع بعض الاصوات المبهمة فتأكد انه لم ينتقل الى الحياة الآخرة...حاول ان يفتح عينيه وان يركز فيما حوله فوجد الكثير من الاسلاك والانابيب مثبتة على جسده وومضات من الارقام الملونة تظهر النبض والضغط على الشاشة بجانب سريره. احس انه ولد صغير ضاع من بين يدي امه في مطار مزدحم. جرب ان يحرك قدميه ويديه واحس بيد زوجته تشد بقوة على يده وتقول له: "الحمد لله على سلامتك، أحبك" أحس بالعطش فطلب ماءً من الممرضة التي بللت له شفتيه. شعر بسعادة غامرة وكأنه امتلك العالم. قال: "لم اكن اعرف ان للماء طعم. يبدو ان للماء طعم". اسلم عينيه للنوم واحس انه سيكون محظوظاً لو استيقظ في اليوم التالي.
في الايام التالية عرف كيف يتقلب في السرير بدون مساعدة كما عرف طعم ولذة الوقوف والمشي وكأنه طفل صغير يمشي لأول مرة.
نظر من نافذة المستشفى فرأى المركبات تروح وتجيء وشاهد تزاحم الناس وهو يشترون الخبز والقطايف والحلويات قبل موعد افطار رمضان. لاحظ ان الحياة مستمرة ولاحظ انه لو كان قد مات اثناء العملية لما عرف الناس في الشارع عنه شيئاً.
جلس مع ابنائه وزوجته وتناقشوا في موضوع السرطان والموت واخبرهم انه سيموت في نهاية المطاف مثل كل البشر وان عليهم ان يتقبلوا هذه الحقيقة وان يستمروا في دراستهم وفي حياتهم واخبرهم كم كان يرغب في حضور حفلات قرانهم وان يحمل بين ذراعيه حفيداً او حفيدة.
استمرت حالته في التحسن مع بعض المطبات الصحية اثناء العلاج بالاشعة الذرية العميقة والعلاج الكيماوي. تمر الايام بصيفها وخريفها وشتائها وربيعها وهو يقاوم ويحارب في سبيل يوم جديد آخر، أحس ان لكل ثانية معنى وقيمة واحس ان افراد عائلته واصدقائه اعطوا لحياته قيمة مع كل الحب والحنان والنصح والمشورة والمساندة والمساعدة التي منحوها له.
منعه اطبائه من قيادة السيارة ولكنه تمسك بحريته في التفكير والقراءة والكتابة والتأمل فتعود ان يسافر بخياله الى الاماكن التي زارها وتلك التي لم يزرها...تذكر ماضيه في حلب وارمينيا وبورنموث حيث درس، تذكر زوجته التي عاشت معه طيلة 35 عاماً واعتنت به في السراء والضراء، في الغنى والفقر وفي الصحة والمرض، تذكر سيمفونيات صراخ اطفاله عند ولادتهم وكيف كان يحملهم ويلعب ويدرس معهم... استرجع نقاشاته مع اصدقائه في ذلك المطعم الذي كان يذهب اليه، نقاشات في السياسة والاقتصاد والدين وكارل ماركس وفولتير وموليير، تذكر الوجوه والابتسامات، الصراعات والنزاعات، النجاحات والاخفاقات، الحب والحياة.
لم يعد يهتم بموديل السيارة او الساعة أو الحذاء أو نوع البدلة التي يلبسها بل احس بأهمية الحب والحنان. استمتع بكل نسمة هواء تدخل الى رئتيه واحس بملمس ثيابه على جسده، شم رائحة الزهور في الحديقة وتذوق طعم القهوة الدافئ وسمع طرقات رذاذ المطر على نافذته.
بالنسبة لي:
كنت انا الطبيب الذي اجرى له العملية وتابع حالته فسنحت لي الفرصة لاقترب منه فعرفته مثالاً للايثار والشجاعة والاخلاق والذكاء والثقافة والادب. كتب لي رسالة بعد مرور سنة على اجراء العملية فقال: "لم تكن رحلتي سهلة ولكنني اجتزتها بفضل الحب الكبير والحنان الدافئ من زوجتي وابنائي واقاربي واصدقائي. لا اعلم متى سأغادر هذه الدنيا ولكنني مصر ان اجعل ايامي الباقية سعيدة ومتفائلة". مات بعد اربعة سنوات من الصراع الطويل مع السرطان وكتب تجربته مع المرض في كتاب اسماه "الحياة من جديد" http://www.rebrand.ly/liferelived . عند اشهار الكتاب كنت انا مسافراً خارج البلاد. وصلتني قبل ايام نسخة من الكتاب فقرأته كاملاً خلال يومين وبكيت بعدها بكاءً مراً.
"فيكين هاكوب اصلانيان...ايها الارمني الرائع...سوف تبقى صورتك في ذاكرتي مدى الحياة فقد احترمت انت الحياة كما احترمت الموت...الى زوجتك وابنائك اتقدم بخالص العزاء".
Ibrahimsbeihaz@gmail.com