الملاذات الامنة وقصة التقرير
د. محمد المقابلة
18-05-2020 03:02 PM
ينسى كثير منّا أنّ سفينة النجاة التي نركبها جميعا والتي لا نجاة لنا بعد الله إلا بالحفاظ عليها معافاة سليمة من كلّ أذى هي سفينة الوطن، والتي لن يأخذها أحد منّا غصبا وسنضرب والله على يد كلّ مَن يحاول فيها خرقا.
ولا يخفى على كثير ممن يتبعون الحقّ ويقولون الحقّ ولو على أنفسهم أنّ هذا الوطن قد تمّ تزوير كثير من ماضيه وتضحياته ومواقفه التي نُعلي كعبنا بها على كلّ الأكعب، وتُطاول فيها رقابنا أعالي الأسحب، ووالله ما كان لهذا التزوير والتدليس والتلبيس أنْ يمرّ لو تصدّى له رجال تُحقق وتُدقق وتنافح وتكافح دون أنْ ترجوا من أحد حمدا أو شكورا.
وما زالت تلك الأساليب والألاعيب تعيد الكرة تلو الكرة والمرة بعد المرة، غايتها إضعاف الوطن وإنهاكه، وللأسف أدواتها أحيانا بعض من أبناء الوطن ممن يعلمون وممن لا يعلمون، والنتيجة حتما لصالح ذلك الكيان الصهيوني الطامع في أن يكون (رجال بني عمون في طاعتهم ونساء بني عمون في خدمتهم) كما ورد في سفر اشعياء من توراتهم.
فكان آخر تلك الأخبار والعناوين المضللة أن تقريرا صدر عن البنك الدولي يقول: (أن مساعدات البنك الدولي للأردن من عام 1990 إلى عام 2010 وبقيمة 3 مليار و133 مليون تم تهريبها خارج الوطن إلى ملاذات أمنة وغير أمنة)، فما حقيقة هذه الأخبار؟
مع تأكيدي أنّ ما أقوله هنا هو محض اجتهاد مني مبني على التحقيق والتدقيق وليس مبنيا على التزوير أو التبرير، و تالله ما أوصل حالنا إلى حالة التيه التي نعيش إلا سيول التدليس وكثبان التزوير، وما أوصلنا إلى حالة انعدام الثقة فيما بيننا إلاّ كثرة الكذب وحبّ التبرير.
بداية لا بد أن أؤكد وأبين أنّ من يدّعي أو يقول أنّ وطني لا فساد فيه ولا أفساد فوالله إمّا انّه أحد الفاسدين أو أحد الجاهلين -إنْ أحسنت الظن- فإنكار الألم بلادة وإنكار المرض انتحار.
اعتمدت تلك الإخبار والعناوين على دراسة نشرت في مجلة الايكونوميست البريطانية بتاريخ 13 شباط 2020 بعنوان (Elite Capture of foreign Aid: evidence from Offshore Bank account) "سيطرة النخب على المساعدات الأجنبية: شواهد من الحسابات المصرفية في الخارج".
قام على هذه الدراسة أربعة أشخاص هم: (Jorgen Juel Andersen, Niels Johannsen, Bob Rijkers، بإشراف نائبة رئيس البنك الدولي لاقتصاديات التنمية Pieny Goldbearg.
الحدود المكانية للدراسة: شملت الدراسة عددا من دول افريقيا واسيا والأمريكيتين وأوروبا، و يوجد بين هذه الدول دولتان عربيتان فقط هما الأردن وموريتانيا.
الحدود الزمانية للدراسة: من عام 1990 الى عام 2010.
خلاصة الدراسة: المساعدات التي يصرفها البنك الدولي إلى الدول الأكثر احتياجًا تتزامن مع زيادات حادة في الودائع المصرفية التي تتدفق على المراكز المالية الخارجية المشهورة بالسرية المصرفية وإدارة الثروات الخاصة (الملاذات الآمنة مثل: سويسرا، ولوكسمبورج، وجزر كايمان وسنغافورة)، دون غيرها من المراكز المالية الأخرى (غير الملاذات مثل: ألمانيا، وفرنسا، والسويد).
وكذلك يعتقد الباحثون أن فعالية المساعدات تعتمد بشكل أساسي على جودة المؤسّسات والسياسات في البلدان المتلقية للمساعدات، مشيرين إلى أن أحد الأمور التي ينبغي النظر إليها أن هذه المساعدات قد تكون اقتصادية وسياسية، لأن العديد من البلدان التي تتلقّى مساعدات أجنبية، لديها مستويات عالية من الفساد، وهذا ما يثير المخاوف من أن تنتهي تدفقات المساعدات في جيوب النخب السياسية وأصدقائها.
ما ورد في التقرير حول الأردن:
ورد في الجدول رقم (A6) في الصفحة (40) الدولة رقم (14) الأردن: حيث بلغت التحويلات للملاذات الآمنة ٢مليار و٤٢ مليون دولار، أما التحويلات للملاذات غير الآمنة فقد بلغت مليار و٩١ مليون دينار، أي ما مجموعه 3 مليار و133 مليون دولار، في الفترة من عام ( 1990-2010).
وورد فيه أيضا نسبة مساعدة البنك و التي تتراوح بين 1٪ و 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي السنوي في المتوسط للدولة، و كانت نسبة الأردن حسب الجدول (1.1%)، و المساعدة الإنمائية الرسمية و كانت (4.8%).
بعد أنّ عرضت على حضراتكم و بإيجاز شديد ما توصلت إليه كباحث عن الحقيقة و بيانها و لو كانت على أنفسنا، مذكرا بما أوردته في بداية مقالتي فأقول:
1. العنوان الحقيقي للدراسة حسب الترجمة هو: (سيطرة النخب على المساعدات الأجنبية: شواهد من الحسابات المصرفية في الخارج) وليس كما كتبه المدونون وغيرهم حيث جعلوا عنوان الدراسة: ( تهريب مساعدات البنك الدولي للأردن وبقيمة أكثر من 3 مليار للخارج).
وما زال ما خطّوه بأيديهم شاهدًا على التحريف و التزوير بهدف اللعب في وعي الأردنيين الذين وللأسف كثير منهم يقرأ العنوان فقط و يكتفي بعدها بتأليف المتن من خياله و شطحاته ثم ما يلبث أنْ يصبح نسجُ خياله قصة ًحقيقية مروية ذائعة الصيت.
2. من أصول التوثق والتحقق الذي نمتاز به كأمّة قرآن وحديث هو البحث في عدالة السند قبل صحة الرواية، وقد ورد في نفس الدراسة (الصفحة الأولى في الهامش السطر الخامس) أنها دراسة تعبر عن القائمين عليها ولا تعبر عن رأي البنك الدولي و قد تمت بدعم من شركة (this paper has been supported in part by the Knowledge for Change)، و هذه الشركة بعد البحث عنها ثبت لي بأنها شركة بريطانية خاصة ممولة من بعض الأشخاص و المنظمات، و أنّ أول الداعمين لها هو رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتاياهو، و هذه الشركة هي التي روجت تقريرا ملفقا في بداية أزمة كورونا ادعت فيه أنّ منظمة الصحة العالمية خلصت بعد دراسة صحية لدول العالم أنّ أكثر دولة آمنة في العالم من كورونا هي "إسرائيل" وان أكثر دولة فعالية في إجراءات الوقاية هي إسرائيل، وبعد تلك الدراسة تبين للجميع أن منظمة الصحة العالمية ليس لها أي علاقة بهذه الدراسة، و قد نشر مكتب رئيس الوزراء الصهيوني هذه الدراسة على صفحته بتاريخ 31/3/2020 متفاخرا ومتباهيا ليقنع مرتزقته بانتخابه، وتبين لي أن اثنين من القائمين على الشركة هم يهود صهاينة، و بإمكانكم الرجوع الى هذه الصفحة على فيسبوك.
والغريب أن هذه الدراسة لم تتطرق أو تذكر الأردن بأية كلمة، علما بان الكيان الصهيوني زادت فيه الإصابات بوباء كورونا عن 15 ألف مصاب و الوفيات بالمئات، في حين أن الأردن كان أكثر دولة في العالم أمنا و أمانا وإنجازا في أزمة كورونا شاء من شاء وأبى من أبى.
وهنا أترك للقارئ التفكر بكل حيادية و شفافية و ليسأل نفسه هل أثق بمثل هؤلاء؟
3. انتشر بين الناس أن الدراسة صادرة عن البنك الدولي وأنها دراسة رسمية في حين أن الدراسة نفسها تقول في الصفحة الأولي أنها لا تمثل البنك الدولي وبنفس الوقت تضع شعار البنك الدولي على رأس الصفحات!! إذ ما الهدف من هذا التلفيق و التحريف ؟ الهدف هو اللعب بوعي الأردنيين و إعطاء الدراسة أهمية وموثوقية.
4. أوردت نفس مجلة الايكومونست التي نشرت الدراسة: أنّ البنك الدولي أصرّ على عدم نشر هذه الدراسة و بأنه لم يتخذ قرارًا نهائيًا بشأنها، وأن لديه شكوكا مشروعة بشأن استنتاجاتها و دقتها، و هنا أتساءل: ما هي مصلحة البنك الدولي بإنكارها ان كانت هذه الدراسة موثوقة؟ فالمال مالهم و النتائج السلبية تعود عليهم أيضا، بل الأولى به أن يأخذ بها إن صحت و يعالج و يحاسب تلك الدول.
5. وثَّقت نتائج الدراسة بوضوح ارتباط صرف المساعدات بتراكم ثروات النخب في حسابات الملاذات الخارجية بالتوازي مع تلقي بلادهم مدفوعات دولية كبيرة، إلا أنها لم تكشف هوية المتورطين في هذه العملية أو صفتهم، وبالتالي لم تتمكن من تحديد الآلية الاقتصادية الدقيقة التي تساعد في خروج هذه الأموال إلى الخارج، لتلافي و تلاشي و محاسبة هؤلاء الفاسدين و ضمان عدم تكرارها.
6. الدراسة تبين أن هناك تهريبا و نقلا للأموال إلى ملاذات آمنة و ملاذات غير آمنة، لكن الدراسة لم تقل في أي سطر ممن سطورها أنه تهريب لأموال المساعدات ذاتها، حيث يمكن أن تكون أموال وثروات أغنياء خائفين على ثرواتهم و بالذات أن فترة الدراسة تشمل حرب الخليج الأولى و الثانية، وهذا سبب كافي لكثير من الخائفين على أموالهم لا على أوطانهم أن يُهربوا أموالهم للخارج، كما ان تلك الفترة شهدت وجود أموال كبيرة لإخوة عراقيين كانت موجودة في البنوك الاردنية.
أخيرا أقول:
صحيحٌ أن هذه الدراسة قد يكون لها أهداف و مآرب صهيونية، و صحيح أنّ بعضا من الحاقدين على هذا الوطن أو الجاهلين بخبايا السياسة الصهيونية قد نشروها و حرّفوها، إلا إنني أرى أنّ لا نتخذها هزوا، ولا نجعل منها بابا للطعن واللعن، بل فلنجعل من الاستنتاجات التي توصلت إليها هذه الدراسة نبراسا مفيدا جدا في تصميم برامج المساعدات المستقبلية، و زيادة الحذر من قبلنا كدولة لنكون أقل عرضة للنهب والسلب، و القضاء على فساد النخب ومتابعة التسهيلات التي تتيحها لهم المؤسسات المصرفية في الداخل و الخارج.
كثيرة هي الخناجر و الرماح التي تُرمى في جسد وطني، فلا نكن من الرماة بل لنكن من الدروع، وكل ضعف في هذا الوطن هو قوة للكيان الصهيوني، و كل وهن في هذا الوطن هو نصر للكيان الصهيوني.
سلام على وطني كله، ولا سلام على الفاسدين فيه.