الصالونات السياسية والدور المنشود
د. ماجد الصمادي
12-05-2020 05:20 PM
تنفرد الأردن بوجود حالة خاصة مؤثرة في العمل السياسي تسمى بالصالونات السياسية؛ حالةٌ قوامها نخبٌ سياسيةٌ خرجت من رحم الدولة، لديها فائض ٌ من الخبرة والتجربة التي تريد مشاركتها ونقلها حيناً، و لديها الحنق والحلم بالعودة احياناً اخرى ،تنظم اليها قيادات عسكرية وامنية متقاعدة وطامحون في مناصبَ او مكاسبَ ، واعلاميون وناشطون على المنصات التي اتاحتها وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض محبي اقامة العلاقات العامة للاستفادة منها.
للصالونات السياسية جذور في تاريخ السياسة الأردنية، فقد لعبت في مراحلَ معينة كرافعة للافكار والمبادرات والمقاربات والحلول، وقدمت الى جهاز الحكم ،عبر النخب التي تراستها، وادارت حواراتها ، تصوراتٍ ورؤى، كان أحدثها في التاريخ القريب ،على سبيل المثال لا الحصر وليس على سبيل التأييد ايضاً، قانون الصوت الواحد الذي ولدت فكرته في احدى صالونات عمان السياسية في بداية التسعينيات.
و في السياسة، كما في الفيزياء، لا وجود للفراغ، فقد برزت هذه الصالونات نتيجة الفراغ المتمثل بغياب الحياة الحزبية البرامجية، وعزوف الناس عن الاندماج فيها وفق توجهاتهم ونموذج الحكم الذي يبلورونه، وبقاء مجلس النواب فردي النزعة، مطلبي ومناطقي التوجه، دون وجود مشروع سياسي، اقتصادي، اجتماعي واضح للكتل النيابية، التي من المفترض ان تعكس قوى المجتمع على الأرض، وتستوعب التباينات والحوارات والجدل والحراك المجتمعي وتهذبه وترشّده تحت مؤسسة البرلمان وتصيغ منه مبادرات وتشريعات.
وبالرغم من الدعوات المتكررة لجلالة الملك ،وطرح الأوراق النقاشية الداعية للانخراط في الحوار الديمقراطي، للإسهام في ايجاد بيئة حاضنة وخصبة للفكر الحزبي المؤسس على برامج وطنية اقتصادية سياسية اجتماعية على مستوى الوطن، تعلي من شأن التجربة الديمقراطية الأردنية ، الا ان الصالونات السياسية لم تلتقط تلك الرسائل وبقيت أسيرة الصورة النمطية التي تشكلت – عن معظمها- بكونها مجالس للسلبية والمناكفة والشد العكسي و بث الاشاعة واضعاف جهود الدولة، الامر الذي اثار حفيظة جلالة الملك وانتقد دور هذ الصالونات علناً وفي اكثر من مرة.
الدولة من جهتها تشعر بالغبن، وتعشم من أبنائها الذين اسثمرت بهم في ان يكونوا سنداً لجهاز الحكم داعمين لبرامجها، وناصحين محبين ومؤازرين، ومفكرين ومستشارين متحررين خارج صندوق المسؤولية وتبعاته وضغوطة في اجتراح الحلول الإبداعية لتحديات الحكم والأزمات التي تعصف بالوطن، وعلى النقيض من ذلك وفي ظل الازمات الاقتصادية والسياسية، واخرها الازمة الحالية تنبري بعض الصالونات، وادواتها، بشراسة للضرب تحت الحزام والتصيد العبثي للاخطاء، وتضخيمها، والنقد والسخرية واضعاف لكل مشروع او شعار او توجه ، وحتى لو كان ذلك ضد مصلحة الوطن.
من جهتها، تشكو النخب السياسية بان الدولة العميقة ومجموعة الحكم تشيطنها، وتشوه صورتها عند راس الدولة، وتشكك في كل جهد ائتلافي او تداعٍ لالتقاء تشاوري لصياغة مشروع سياسي ناضج او تطويري يواكب التحديات ، فتقنع صاحب الامر بان هذه الجهود ما هي الا ثرثرة سياسية هدفها الاضعاف ولا بديل ولا حل لديها ، خشية ان تكون هذه النخب بديلة لها ومزاحمة ومنافسة لها في تولي المسؤولية.
الصالونات السياسية بابيضها واسودها، سواء كانت منظمة تحت مسميات جمعيات و ملتقيات و منتديات و جماعات، او غير منظمة، حقيقية؛ لديها مجالس ودواوين، او افتراضية؛ تفترش المنصات الالكترونية، مطالبة جميعها بدور وطني في ان تشكل ما يشبه حكومات الظل حسب النموذج البريطاني والذي يطلق عليه (المعارضة الوفية)، واظن ان الاسم يعبر عن المضمون، بحيث تنشىء تحتها مجموعات عمل موازية لوزارات الحكومة ، تناقش وتتداول المنظورات المختلفة للتنمية السياسية والاقتصادية ومشاريع التعليم والصحة والنقل، والإدارة المحلية وتنمية المجتمع، وكل ما من شأنه تحسين مستوى معيشة المواطنين، وتراجع بحكم خبراتها واطلاعها النماذج العالمية لافضل الممارسات في الحكم الرشيدوالإدارة الحكومية، وتصدر النشرات والتحليلات الموضوعية المبنية على البيانات والوقائع، كجزء من عملية دعم القرار، وتحتضن حوارات وطنية تقود إلى إجماع حول القوانين الناظمة للعمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تدفع الحياة السياسية إلى الأمام وتسهم في انتاج مجلس نواب يلبي طموحات الجميع ويشكل فرصة للتنمية الشاملة.
الازمة الحالية وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة ،تشكل فرصةً ذهبيةً واختباراً حقيقياً للصالونات السياسية اذا ما كانت ترغب في ان تؤدي دورها الوطني المنشود، او ان تعزز الصورة النمطية وتؤكدها بانها تجمعات شللية تدور في فلك المسؤول المغادر ، قسراً، لكرسي السلطة والمتعطش للعودة باي ثمن ، حتى لو كان الثمن الوطن نفسه !