يحتدم التراشق الكلامي وفتل العضلات بين الحكومة وجماعة الإخوان المسلمين, بينما تطفو المواجهة الكامنة بين الخندقين إلى السطح فيما يشبه لعبة "السلم والثعبان" مع اقتراب استحقاقي الانتخابات البلدية والتشريعية المقررة هذا العام.بعد عقود من رعاية غير مسبوقة وفرتها الدولة للتيار الاسلامي الواسع النفوذ لمقاومة خطر المد الشيوعي والقومي الجارف مطلع الخمسينيات, أزيح الغطاء الرسمي عن الجماعة قبل اكثر من عام ضمن استراتيجية جديدة. والمشاحنة القائمة بين الطرفين حاليا احد تجليات التغيير الاستراتيجي في العلاقة.
يسعى الإسلاميون إلى بسط هيمنة "محسوبة" على مواقع صناعة القرار والمجالس المنتخبة ضمن استراتيجية الزحف صوب القمّة (السلطة), بطريقة سلمية عبر الدستور والقانون من خلال الانتخابات البلدية المقررة في 31 تموز والتشريعية المجدولة نهاية العام الحالي. هذا حقهم وحق كل حزب يحترم نفسه ويسعى الى تثبيت ذاته, وكيف اذا كان عامل الدين يضفي عليه شرعية سياسية اكبر؟
في المقابل تشكّك السلطات منذ التفجيرات الارهابية التي ضربت فنادق عمان الثلاثة نهاية 2005 بوطنية أجندة الإسلاميين وتطالبهم بالخروج من حيّز المواقف الرمادية حيال الجهاد و"العمليات الارهابية", وذلك وسط مخاطر تدفق العنف والدموية عبر الحدود من مراجل تغلي في دول الجوار.
صحيح ان المراقب العام للاخوان الأستاذ سالم الفلاحات وغيره وقعّوا على بيان في الخريف اكدوا فيه تمسك الحركة بالولاء للعرش الهاشمي والدولة ونبذ التطرف والفكر التكفيري, لكن الحكومة تقول ان هذه الوثيقة لم تلتزم بها الحركة ككل كما كان الحال في السابق بسبب "الاختراقات" المتعددة.
استراتيجية الدولة الجديدة التي يغلب عليها الطابع الامني, لا تنوي اللجوء الى تزوير الانتخابات كما يحصل في الدول العربية عادة, لان في ذلك خدشا بصورة الاردن الذي يسعى لتكريس الديمقراطية. لكن الدولة ستستند الى أسلحة القانون والغطاء الدستوري في مواجهة مد إسلامي إقليمي, بعضه تكفيري, يسعى برأي مسؤولين الى صبغ الإخوان المسلمين وذراعهم السياسية- جبهة العمل الإسلامي- بأطياف من خارج الثوابت الوطنية الأردنية التي حكمت العلاقة بين الطرفين. فهذه الحركة, التي ظلّت تعمل تحت مظلة الدولة لستة عقود بخلاف شقيقاتها المنبوذات في دول الجوار, أضحت موضع تجاذب واستقطاب, مع دخول طهران وحماس الخارج- الفلسطينية بنكهة إيرانية- على خط التأثير والنفوذ, بحسب مسؤولين وساسة.
ويرى هؤلاء أن الحركة الإسلامية أخذت تتجّه لمنافسة الدولة عبر محاولات الاستقواء على الحكومة تمهيدا لمرحلة "طلب النصرة" قبل محاولة انتزاع السلطة واستعادة الخلافة. إذ يعتقد بعض رموزها بأنهم بلغوا هذه المرحلة وفق إحدى أدبيات حزب التحرير المحظور.
الحكومة تشن هجوما معاكسا اشتدت وطأته قبل موسم الانتخابات. وهي لا تريد دفع الحركة خارج اللعبة الديمقراطية لكنها في المقابل غير مستعدة لترك الملعب لها وحدها. ففي غياب قوى سياسية منافسة تنوي الحكومة والمؤسسات الرسمية دخول المباراة مع الاسلاميين, عبر دعم مرشحين مستقلين ومعتبرين في مناطقهم. ما يعني "فرز اغلب المواطنين في خانة اما مع الاسلاميين او مع الدولة".
تنطوي استراتيجية الدولة على رفع الغطاء عن الحركة, والسماح للعسكريين بالمشاركة في الانتخابات البلدية, وضبط منابر المساجد, والاحتكام للقانون, ووقف التجاوزات المالية المزعومة في المركز الاسلامي - العصب المالي لجماعة الاخوان, والضغط من اجل فك الارتباط مع حركة حماس الفلسطينية.
رئيس الحكومة معروف البخيت فتح النار مرة اخرى الأسبوع الماضي على أصحاب المواقف المتشددة وطالب الحركة بانتهاج خط واضح حيال القضايا الوطنية والقومية. جاء ذلك خلال أول لقاء من نوعه مع طيف واسع من الإسلاميين منذ الازمة التي سببتها زيارة عدد من نواب الجبهة الى منزل ابو مصعب الزرقاوي, زعيم تنظيم القاعدة في العراق, لتقديم التعازي بعد مقتله.
في تلك الأثناء, كانت الدولة قد سعت إلى قصقصة أجنحة الحركة المالية والعقائدية من خلال السيطرة على إدارة المركز الإسلامي, وتعديل قوانين الوعظ والإرشاد والخطابة والافتاء.
إذ يرى مسؤولون ومحللون مستقلون أن الحركة توظف هذه الأدوات ومنابر المساجد لترويج حملاتها الانتخابية والسياسية وصولا إلى هياكل منتخبة من مجالس طلبة الجامعات إلى مجلس النواب مرورا بالنقابات والبلديات.
ويخطّط قياديون إسلاميون الى استعمال الديمقراطية كسلم للوصول الى البرلمان و"للصعود إلى سطح" الحياة السياسية للبلاد من بابها الواسع والبقاء هناك كما حصل مع حماس, وحزب الله اللبناني, وفي العراق من خلال رئيس الوزراء نوري المالكي, وفي مصر وقبلها في السودان, بحسب ساسة. وفي حال صعدوا سلم النفوذ الاخير, وبقوا هناك سيحاولون تغيير اساسيات استراتيجية للدولة تظل خطا احمر, بما في ذلك التراجع عن قرار فك الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة الغربية قبل عشرين عاما, على ما يحذر منه مسؤولون.
هنا تحتدم لعبة "السلم والثعبان". فكلما صعد الإسلاميون طبقة عبر تسجيل مواقف وأهداف في مرمى السلطة, حاصرتهم الحكومة من زاوية معاكسة لتضعف تقدمهم.
ويستغل الإسلاميون جيوب الفقر والبطالة والظروف السياسية الاقليمية التي خلفتها السياسة الامريكية المتحالفة مع اجندة اسرائيل, لا سيما تخبط أمريكا في العراق وفلسطين- من أجل تسجيل المزيد من النقاط.
الهجوم المعاكس يتمثل في تفعيل المؤسسات الدينية الحكومية, وإسناد مستقلين أقوياء في مواجهة مرشحي التيار الإسلامي في العاصمة والمحافظات يحظون بدعم رجال الدولة كلا حسب منطقته.
تعيين شيخ الدين المخضرم نوح سلمان مفتيا للمملكة يندرج ضمن هذه الاستراتيجية, حيث يقول مسؤول "ان أحدا من خندق الاسلاميين لا يستطيع التطاول أو المزاودة عليه بعد توحيد مرجعية الافتاء".
كذلك بدأ القصر ومن وراءه الحكومة تعميم الفوائد على المواطنين في المناطق الفقيرة عبر بناء مؤسسات خدمية ومنازل ومشاريع لتحسين اوضاع الفئات المهمشة والأقل حظا - لا سيما في الواجهات العشائرية عبر تعميم المنفعة بدلا من تخصيصها كما في السابق. وقد تساعد هذه الاجراءات على أبعادهم عن امكانية الانجراف إلى المعسكر الآخر من خلال المعونات العينية والنقدية والخدمات الصحية المساندة التي يقدمها التيار الاسلامي للمحرومين. فالذي يدفع ويساعد يأخذ ما يريد.
هدف الإسلاميين الآن رئاسة بلديات مفصلية مثل إربد, الزرقاء, مادبا, معان والرصيفة فضلا عن 12 على الأقل من مناطق عمان الـ 20 ويركز الإسلاميون على رئاسة البلدية, بعد إدخال تعديلات جديدة على قانون البلديات تعطي الرئيس صلاحيات أوسع على حساب المجلس.
الصعود إلى البلديات الرئيسة, قد يحضر الاجواء النفسية والشعبية ويعطي الإسلاميين فرصة للجلوس على ما بين 35 و 50 بالمائة من مقاعد المجلس النيابي الـ 110 وقد يكون في ذلك تضخيم لأن الدراسات الانتخابية واستطلاعات الرأي لا تعطي الاسلاميين اكثر من 25 بالمائة في ظل قانون الصوت الواحد.
الإسلاميون يحسبون معادلة القوة والسيطرة النيابية لكن بحذر شديد
داخل الحركة الاسلامية يشتد التنافس بين تيار الوسط والتيار الرابع المقرب من حماس على تشكيل قوائم الاخوان في الانتخابات البلدية والنيابية. وأمس قرر مجلس الشورى المشاركة في الانتخابات النيابية.
ترى الأجنحة المتشددة في الحركة ان المجلس النيابي أداة فاعلة للتأثير على سياسات الدولة ودفعها صوب الأسلمة بعيدا عن فلك الغرب العلماني لا سيما الولايات المتحدة. ولا يعتقد اليمين الإسلامي بأن سياسات الأردن ترتكز إلى مضامين الشريعة بحسب مفاهيمهم, مع أن البند الثاني في الدستور ينص على ان دين الدولة هو الإسلام.
في المقابل, لا ترغب بعض القيادات في الجماعة في الحصول على أغلبية مطلقة حتى لا تقف أمام استحقاقات شعبوية, إقليمية ودولية قد تدفعها إلى مسار تصادمي مع السلطة التنفيذية.
لعبة شد الحبل بين السلطة والجماعة مرشحة للتصعيد مع اقتراب موعدي الانتخابات البلدية والتشريعية وسط تداعيات وانهيارات تلوح في أفق الإقليم قد تصل إلى مرحلة كسر العظم لا سيما في العراق, فلسطين ولبنان.
الاستهداف الاعلامي والمزايدات السياسية ستستمر بين الدولة والتيار الاسلامي فهذا جزء من طقوس موسم الانتخابات.
لكن الدولة لن تهادن هذه المرة بعيدا عما يدور بين الطرفين, فأن ما يهم المواطن الأردني هو فرز مجلس نيابي بعيد عن هيمنة السلطة التنفيذية يدافع عن حقوقه ويقف في وجه ثالوث الفقر, البطالة والفساد, ويسن قوانين تراعي مصالح الوطن أولا وأخيرا. الاهم ان لا تؤدي هذه العلاقات المتوترة الى تحويل الحركة الاسلامية التي هي جزء هام من نسيج ومكونات المجتمع الى ضحايا, وان لا تشجع تلك الاجواء المحلية والاقليمية المشحونة الى بروز ظواهر متطرفة وتكفيرية في المجتمع, على غرار ما حصل في بلدان مجاورة.