يفتّش عن المذاق ويتتبّع الرائحة. وتلك أضحت معضلته، مع مرور الوقت وتلاحق الأعوام، بعيداً عن بلاده. كلُّ ما يستهلكه في الغربة من طعام وشراب يُعيده إلى مغناة "كان غير شكل الزيتون". وليت الأمر يتوقف عند الزيتون والصابون، يا سيّدتي ومولاتي.
ودّ الرجل الغريب، منذ مطلع الشهر الفضيل، أن يتذوّق طعم الخرّوب، فابتاع زجاجة من محل يُقال إنه محترف في المشروبات الرمضانيّة. عندما عاد إلى البيت كان أوّلَ ما فعله أن فتح الزجاجة البلاستيكيّة، وسكب كوباً من الخرّوب، فلسعه مذاقٌ لا صلة له أبداً بالمذاق الأصليّ للخروب الذي أدمن عليه في مخيم الحسين، وكان يشتريه من محل شهير في أول المخيم على مقربة 300 متر من مخفر الشرطة. وظل ولاؤه لهذا الطعم حتى عندما ارتحل صاحبه أبو علي المصريّ إلى محلّه الكائن في شارع قريش بوسط البلد بعمّان، وكان هذا الرجل هو والد جارتهم (في شارع 19) أم عرفات المصري.
للمذاق ذاكرةٌ وصوتٌ. إنه أساس البنية الحسيّة للطَّعم. المذاق معيار راسخ في الماضي البعيد لحواسّ الكائن. تستقر الذّائقة وتألف الطّعم، فتغدو تلك الألفة قاعدةً ومرجعيّةً، وبها يقيس الكائنُ كلَّ ما له علاقة بذلك الطَّعم. هذا ينطبق على الملوخيّة، والمقلوبة، والقطايف، والرز بالحليب، وحتى المخلّل. وأمّا مذاق الشاي الذي كانت تصنعه زوجة أبيه وأمّه العظيمة "الدبّورة" فيدفع عمره، كما يُقسم أبناء بلده، كي يستعيده!
لذا تغدو الأمّ، في هذه العلاقة العميقة، هي المرجعيّة التي تُقاس على أساسها جودة المذاق وإبداعه، حتى لو كان المذاق الأول للطعام غير مستوفٍ لاشتراطات الجودة والعالميّة، لكنه يبقى متّصلاً برائحة الأم، الأشهى من رائحة الجنّة. لا يمكن لطعام الأمّ، أيّ أمّ، إلا أن يكون شهيّاً، وهذا إطلاقٌ لا يُفسده الاستثناءُ العابر!
في الغربة، بعيداً عن الرحم الأوّل؛ رحم الأمّ ورحم الوطن، ينجرح المذاق، ويُقعي مكتئباً في زاوية الماضي البعيد. وأمّا الرائحة؛ وتحديداً رائحة شجرة الليمون في ساحة البيت بالمخيّم، فيستطيع، تمييزها من بين أكثر من تريليون رائحة، وهذه قدرة الأنف البشريّ، كما يقول العلماء.
كلّما فتح الثلّاجة، تطلّ عليه زجاجة الخرّوب البلاستيكيّة، وتدعوه لإيلائها اهتمامه، لكنّ ولاءه للخرّوب الأصليّ، الذي يبعث الصهيل للسانه حلقه، يردعه، فيلوذ بـ"كولر" الماء، ويرتشف قليلاً، ثم يتذكّر "الزير" الملفوف بالخيش النديّ، في ساحة البيت، ويتذكّر "كيلة" الألومنيوم، فيعبّ من بئر الصّور والروائح حتى يرتوي!