منذ سنوات وأنا أتمنى أن أبتعد ولو لمرة واحدة عن كتابة البحوث والمقالات التي تتعلق بالإستراتيجية والأمن القومي والسياسة أردت أن أعطي نفسي بعض الوقت أو كما يسميها الأخوة في عالم الصحافة إستراحة المحارب .
والواقع أنه قد أعجبتني قصة منقولة لا أعلم من كتبها أو قام بترجمتها ولقد استوقفتني هذه القصة ببساطتها وقوة رمزيتها ورأيت أن أشارك ما ورد فيها مع أخواتي وأخواني من الأصدقاء الأعزاء.
الخط الفاصل بين الشرفاء والفاسدين خط دقيق لا يُرى بالعين المجردة تماما مثل الخط الذي يفصل بين اللونين الأبيض والأسود فالشرفاء معروفون والفاسدون معروفون . وفي السنوات الأخيرة أخذ هذا الخط الفاصل يتسع ويكون منطقة رمادية باهتة تتلقف بعض الهاربين من ميادين الشرف والفساد على حد سواء .
كانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تهتم في بعض الأحيان بتجنيد أشخاص عاديين تقوم بدعمهم في الخفاء ليتصدروا أعلى المواقع ويصبحوا على مر السنين من أصحاب القرار بالإضافة إلى مجموعة الأذكياء من العملاء المكلفين بتأدية المهام وتنفيذ التعليمات والتوجيهات الصادرة إليهم .
وفي الحرب الباردة نشطت الوكالة في تجنيد العديد من الأشخاص العاديين من مواطني الإتحاد السوفياتي وكانت تساعدهم الوكالة ماديا حتى يتمكنوا من التقدم في المراتب الإجتماعية والحزبية التي تضمن لهم الوصول إلى مراتب عالية في الحزب الشيوعي ولم تقم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بتكليفهم بأي مهمة . ولما تمت مناقشة الدور الذي يقوم به هؤلاء الأشخاص من قبل مدير الوكالة ومساعديه كانت إجابة المسؤول عن الإتحاد السوفياتي إجابة بسيطة لأنهم غير مؤهلين فهم يتخذون القرارات الخاطئة والتي تسَرع في تفتيت الإتحاد السوفياتي .
قصة منقولة:
يقول خروتشوف اتصل بي الرفيق ستالين وقال لي تعال إلى مكتبي بسرعة يا نيكيتا ... هناك مؤامرة كبيرة . ولما وصلتُ وجدتُ مجموعة من الوزراء وقال لي ستالين يا رفيق نيكيتا لدينا مصنع للإطارات ( دواليب ) وهذا المصنع هو هدية من شركة فورد الأمريكية وهو ينتج الإطارات منذ سنوات وبشكل جيد ولكن فجأة ومنذ ستة أشهر بدأ هذا المصنع بإنتاج دواليب تنفجر بعد بضعة كيلومترات ولم يعرف أحد السبب . أريدك أن تذهب إلى المصنع فورا وتكتشف ما هو السبب .
وحال وصولي المصنع باشرتُ في التحقيق فورا وكان أول ما لفت نظري هو حائط الأبطال على مدخل البناية حيث توضع صور أفضل العمال والإداريين الذين عملوا بجد ونشاط خلال شهر .
وبدأت التحقيقات مباشرة من أعلى مستويات الإدارة حتى أصغر عامل ولكن لا أحد يعرف أسباب إنفجار الإطارات . فقررتُ النوم في المصنع حتى أتوصل إلى حل هذا اللغز فأنا لم أفشل في أي مهمة في حياتي العملية والسياسية فما بالك إذا كان هذا التكليف صادر من قبل ستالين .
استيقظتُ في الصباح الباكر ووقفتُ في أول خط الإنتالج وقمتُ بمتابعة أحد الإطارات ( الدولاب ) ومشيتُ معه من نقطة الصفر حتى خروجه من خط الإنتاج ولقد أُصبتُ بإحباط شديد لقد سارت عملية التصنيع بشكل طبيعي وكل شيء سار بالمسار الصحيح وكل شيء متقن وتم تركيب الإطار على إحدى العجلات الأمامية وركبتُ بالسيارة وطلبتُ من السائق السير بسرعة متوسطة ولكن الإطار انفجر بعد بضعة كيلو مترات من إستخدامه .
وقمتُ فورا بحمع المهندسين والعمال والإداريين وأحضرتُ المخططات وقمتُ بالإتصال بالمهندسين الأمريكيين ولم أصل إلى حل . وقمتُ بالإشراف على تحليل المواد الخام المستخدمة في صناعة ذلك الإطار . ولقد أثبتت التحاليل أن المواد المستخدمة ممتازة جدا وليست هي السبب أبدا ولكن الإطارات تنفجر بدون سبب .
لقد أصابني الإحباط وأحسستُ بالعجز وكان الهاجس الأكبر كيف أستطيع مقابلة ستالين دون أن أجد حلا لهذه المشكلة والتي ارتبط حلها بمستقبل حياتي ومستقبلي السياسي .
وبينما أنا أمشي في المعمل لفت نظري حائط الأبطال وصورهم المنشورة وكان في قمة قائمة صور الأبطال صورة أحد المهندسين وهو يتربع على رأس هذه القائمة منذ ستة أشهر أي منذ بدأت هذه الإطارات بالإنفجار بدون سبب .
لم أستطع النوم في تلك الليلة وقمتُ بإستدعاء هذا المهندس إلى مكتبي صباح اليوم التالي وقلتُ له أرجوك إشرح لي يا رفيق كيف استطعت أن تكون بطل الإنتاج لستة أشهر متتالية ؟؟ وقال لي لقد استطعتُ أن أوفر الملايين من الروبلات للمصنع والدولة . فقلتُ له وكيف استطعت أن تفعل ذلك ؟؟ فأجابني ببساطة قمتُ بتخفيف عدد الأسلاك المعدنية في الإطار وبالتالي استطعنا توفير مئات الأطنان من المعادن يوميا .
هنا أصابتني السعادة الكبيرة لأنني عرفتُ حل اللغز أخيرا ولم أصبر على ذلك اتصلتُ بستالين فورا وشرحتُ له ما حدث وبعد دقيقة صمت قال لي بالحرف الواحد والآن أين دفنت جثة هذا الغبي ؟؟ فأجبتُه وأنا خائف إنني في الواقع لم أعدمه بل سأرسله إلى سيبيريا لأن الناس لن تفهم لماذا نعدم بطل إنتاج .
وفي الواقع ليس بالضرورة أن تكون فاسدا وسارقا لتؤذينا وتدمرنا يكفي أن تكون غبيا .
الخاتمة:
بقيام الشاب محمد البوعزيزي بإضرام النار في جسده إنتشرت الثورة التونسية بتاريخ 17/12/2010إنتشار النار في الهشيم لتصل إلى 14 دولة عربية ولتفجر معها مخزون الغضب عند الشعوب العربية نتيجة غياب العدالة الإجتماعية وتفاقم الفساد داخل الأنظمة الحاكمة وكبت الحريات الأساسية وإنتهاك حقوق الإنسان وإرتفاع نسبة البطالة والفقر والجوع .
ولقد هالنا ما صاحب هذه الثورات من الدمار الهائل للبنى التحتية وتفجير المخزون الثمين النادر والغالي من تحف التراث الحضاري والديني والتاريخي ومن القتل للنفس البشرية وتشريد الملايين من النساء والأطفال دونما وجه حق . تحت ستار ما تعارف على تسميته ظلما وبهتانا بالربيع العربي .
إن مخلفات هذه الثورات والسمات الأبرز في عالمنا اليوم تتمثل في إنفصال الجنوب عن السودان والثورة التي لا تعرف الحدود الإنسانية في ليبيا ووصول الأخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر ومن ثم الإنقلاب عليهم والحرب المستعرة في سوريا ومقتل مئات الآلاف وهجرة الملايين وبروز دولة الإسلام ( داعش ) في العراق وسوريا وتدمير المنشآت والقتل تبعا للهوية والدين والفساد المستشري . وإتساع هوة الخلاف الممنهج بين المعسكرين الشيعي بقيادة إيران والسني بقيادة السعودية .
وهذا الصمت المطبق من قبل الدول العربية والدول الإسلامية لما جرى ويجري في فلسطين
لقد كانت تجربة مجلس التعاون لدول الخليج العربية والذي تم إنشاؤه بتاريخ 25/5/1981هي أنجح وأطول تجربة عربية في التاريخ الحديث ونحن نتألم ونأسف أن نرى بداية النهاية لهذا المجلس .
إن أقسى درجات المأساة وأعظم المصائب مصيبة الإعتراف بأن ما يدور في عالمنا العربي من حروب وويلات ومآسي ودمار البنى التحتية وتهجير الملايين من النساء والأطفال يتم تمويله والإنفاق عليه بأموال عربية تجاوزت تريليونات الدولارات كلها تُصرف في قتل الإنسان العربي من قبل أخيه العربي بسلاح غربي .
وفي النهاية الأ يحق لنا أن نتساءل هل جاء زمان الأغبياء ؟؟.