أصبحت في تمام الاستعداد النفسي الى قفزة في المجهول. الى مغادرة المفرق والذهاب الى مدينة جديدة. كنت اتصور عمّان دولة أخرى تحتاج الى تأشيرة مرور والى تبديل عملة والى بطاقة سفر وحزم حقائب وكراء بيت. لم تكن عمان بالنسبة الينا سوى ممر عبور بالسيارة، في طريقنا من الشمال، الى الكرك او الطفيلة او معان او العقبة والعودة، دون حتى تفكير بالنوم فيها.
كان انتقال شاب قروي الى مدينة اسمنتية غامضة، ذكرني بالافلام المصرية التي تعرض انتقال الشاب الصعيدي الى القاهرة ومعاناته وضياعه.
كما انني أصبحت مهيأ تمام التهيئة إلى الانتقال لمهنة جديدة، مختلفة كليا عن مهنة التدريس، التي امضيت فيها أحد عشر عاما!.
عملت في مدرسة عبد الله بن رواحة في المفرق بمعية المدير الراقي الحشم طالب احمد الشواقفة - أبو نبيل. ومع المعلمين الافذاذ حنا حداد وغازي هلال النمري- الباشا.
يوم 9 شباط 1977 وفي ظروف جوية سيئة، سقطت الطائرة السمتية -الطوافة التي كان يقودها الطيار العالي الكفاءة بدر الدين ظاظا، وكان على متنها الملكة علياء الحسين والدكتور محمد البشير وزير الصحة ومهند ألخص مرافق الملكة، وهي في طريق العودة من زيارة الى مستشفى الطفيلة، إثر شكوى تقدم بها مواطن حول سوء خدمات المستشفى وتجهيزاته.
عزمتُ على زيارة الدكتور المتميز محمد طايل الشواقفة- ابوزيد، الذي تم تعيينه مديرا لمستشفى الطفيلة. وهو قريب أصدقائي واسعي الإحترام رجل الأعمال الشيخ نوفان ضيف الله الشواقفة وشقيقه الدكتور نايف.
في سيارة السرفيس من عمان إلى الطفيلة، يسّر الله لي راكبا، لم يتوقف عن سرد المشاكل التي تعاني منها محافظة الطفيلة.
قررت الإقدام على مغامرة وعلى فعل كبير خطير، له عواقب وخيمة، لن تطالني إن أنا أتقنت التمويه.
كان عدد من المعلمين موقوفين، لخلاف مع مدير التربية، الذي وجد زجاج سيارته محطما في الصباح. وكان عطاء بناء درج شاهق للمدرسة الثانوية، قد شابه غش بيّن. وكان هناك من استولى على أراض قرب بلدة القادسية وحرثها بتواطؤ رسمي وبتراكتورات رسمية!
انتحلت صفة صحفي لأتمكن من الكتابة عن تلك المشاكل من الداخل. كانت أول المستلزمات أن يكون معي مصور. فاصطحبت الصديق المصور جمال مسودة وذهبنا معا إلى المتصرف- الحاكم الإداري الذي ابلغه الحاجب أن الصحافي محمد داودية من صحيفة «الأخبار» قادم من عمان ويطلب مقابلته.
فُتِحت لي الأبواب على مصاريعها فقد كان استقبال المتصرف بمثابة حصان طروادة.
وبعد شرب الشاي، عاتبت المتصرف على حبس المعلمين. وطالبت أن أزورهم في «النظارة» الكائنة في البقيع.
اتصل المتصرف هاتفيا بمدير الشرطة قائلا: الصحافي محمد داودية من صحيفة «الأخبار» في الطريق إليك فدعه يقابل المعلمين الموقوفين.
قابلت المعلمين المحبوسين ورجعت إلى المتصرف ناصحا أن يفرج عنهم، ففعل.
وانتشر كالنار في الهشيم أنني «أطلقت المحابيس».
توجهت إلى حيث المشاكل الأخرى وأجريت تحقيقات كانت أشبه بالتحقيقات الجنائية. وكان المصور جمال مسودة معي، لا يتوقف عن التقاط الصور وهو لا يعلم انه يساهم إلى حد كبير في التمويه وفي جعله كامل الإتقان.
و في غمرة انهماكي الشديد وبسبب ضيق الوقت لم أتمكن من تحقيق الهدف الذي جئت من اجله وهو زيارة الدكتور محمد طايل الشواقفه مدير المستشفى!
أخذت مجموعة الصور من جمال وعدت إلى المفرق فكتبت تحقيقا مطولا مصورا بعنوان «الطفيلة تحت الصفر»، رتبته ووضعت له مقدمة وصورا، أرسلتها إلى الأستاذ راكان المجالي رئيس تحرير صحيفة الأخبار، فنشرها بعد عدة أيام في 4 حلقات تحت عنوان «الطفيلة 77»
انتشيت وأنا أرى اسمي مطرزا لأول مرة على ورق الصحيفة، تحقيق: محمد حسن داودية. تصوير جمال مسودة. ولاحقا عندما طالبني جمال بثمن الصور قلت له مازحا وانا اعرض عليه الكلفة، إنني وضعت اسمه على التحقيق الصحافي وهذا اكبر دعاية له، فغرق في الضحك ورفض قبض المبلغ و «مشّاها».
مع بدء العطلة الصيفية، ذهبت إلى صحيفة الأخبار وتعرفت على رئيس تحريرها الاستاذ راكان المجالي الذي عرّفني على الاستاذ فؤاد سعد النمري مالك الصحيفة.
دعاني النمري إلى مكتبه وسألني: ماذا تشتغل يا محمد؟
اجبته: اعمل مدرسا.
قال: أنت خُلقت صحافيا ومكانك هنا معنا في الصحيفة. عرض عليّ فؤاد النمري- أبو فارس ضعف راتبي الذي كان 45 دينارا، فوافقت على الاستقالة من وزارة التربية.
في الاثناء وصلت الموافقة على النقل من مدرسة عبد الله بن رواحة الى المدرسة العبدلية -العسبلية، الواقعة في طلوع الحايك بجبل عمان. داومت فيها أسبوعين، كان جوّها مغلقا مكتوما، اين منه اجواء مدارس القرى الفسيحة الرحبة، وقلايات وصواني ومناقيش وعلاقات وسهرات معلميها الاجتماعية شبه اليومية.(الدستور)