شكل وباء كورونا الذي داهم البشرية دون سابق إنذار، ولا يزال، أكبر وأقوى وأسرع قوة تغيير مرت على الحياة الإنسانية منذ قرون طويلة، وأعادت هذه المداهمة تشكيل العالم، وسلوك البشر بل وحتى قناعاتهم بصورة أقل ما يقال عنها إنها "انقلابية".
فجأة وبلا مقدمات تقلص العالم وانكمش وحبس الفيروس الخبيث المليارات من الناس في بيوتهم وتوقفت حركة كل شيء من فعل البشر بحثاً عن النجاة والحياة وخوفاً من الموت.
الصاعقة التي ضرب بها فيروس كورونا البشرية والقوانين التىي فرضتها تلك الصاعقة أعادت إلى الأذهان نظرية "العالم أبراهام ماسلو"، وهي النظرية المسماة "نظرية الدافع البشري" والتي نشرها في 1943 في مجلة "المراجعة النفسية العلمية"، وتناقش هذه النظرية ترتيب حاجات الإنسان ووصف الدوافع التي تُحركه، وتتلخص هذه الاحتياجات في الاحتياجات الفيسيولوجية المتمثلة في الأكل، والشرب، والنوم، وغيرها وحاجات الأمان بكل اشكالها، بدءاً من الأمان من الخطر، والتمسك بالحياة وصولاً إلى الأمان المجتمعي والوظيفي، والاحتياجات الاجتماعية وهي العلاقات مع المجتمع بكل أشكالها، والحاجة للتقدير من الآخر والحاجة لتحقيق الذات.
رغم تعرض نظرية "ماسلو" للنقد وتحديداً في جزئية أنها نظرية تتحدث عن المادة، وتهمل البعد الروحاني، أو الديني إلا أنها شكلت ما يمكن تسميته بالعمود الفقري لعلاقة الإنسان بمحيطه، سواءً كان اجتماعياً أو طبيعياً، وأولويات هذا التفاعل ومتطلباته، وعلى مدى سنوات طويلة كادت هذه النظرية ولأسباب عديدة أن تختفي من مساحات البحث والنقاش المتعلق بالسلوك الاجتماعي للإنسان، خاصةً في عالم "الخوف والخطر"، إلى أن جاء فيروس كورونا وأعاد إنتاجها من جديد ومن زاوية تأكيد أن الحفاظ على الحياة أو غريزة البقاء هي أقوى الغرائز الموجودة في عقل وسلوك الإنسان، وكان البعض منا يعتقد أن من تسيطر عليهم غريزة البقاء هم بشر "بدائيون" ... وربما نكون كلنا في هذه الأيام "بدائيين"!
ومن المفارقات التي أنتجتها مداهمة كورونا لكوكبنا الصاخب خاصةً في ما يتعلق بجزئية التحضر والبدائية أن المجتمعات العصرية والمتحضرة كانت هي الأكثر عرضة لهذا الوباء والاكثر ضرراً على صعيد الخسائر البشرية والمادية، فيما بقيت المجتمعات الأقل تحضراً و"عصرنة" في معظم بلدان آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية بعيدة نسبياً عن المعادلة الصراعية مع هذا الوباء ونتائجه الكارثية، وهي الخلاصة التي دعمت بصورة أو بأخرى بعض القائلين بنظرية المؤامرة أي القول، إن الفيروس صُنع خصيصاً لضرب اقتصادات العالم المتقدم في أمريكا الشمالية، وأوروبا الغربية.
أعتقد أنه وبالقدر الذي بُذل ويُبذل من مجهود علمي من أجل اكتشاف لقاح لفيروس كورونا والتحوط مستقبلاً لمثل هذه السلالة من الفيروسات القاتلة باتت الحاجة ملحة أيضاً لأبحاث مكثفة في المستقبل القريب في مجال علم الاجتماع، والسلوك البشري، وطبيعة التعاطي الذي تم مع تداعيات هذا الفيروس الذي همش وعلى مدى أربعة أشهر قيمة الحرية بشكل عام، والحرية الشخصية بشكل خاص، وأنسى مئات الملايين من البشر حقوقهم المدنية، وأحالهم رغماً عنهم إلى "قطيع" يأتمرون بأوامر السلطة المركزية في بلدانهم، ولاحقاً في بلدان العالم.
والسؤال هنا ... ألا تحتاج هذه الظاهرة إلى إعادة تقييم المفاهيم السياسية الاجتماعية ومبدأ الحرية "المتوحش" التي يعيش في كنفها "الغول الليبرالي الراسمالي"؟.
كورونا "فجر" فينا الكثير من الأسئلة "المحرمة"، ولعل الإجابة عنها تعيد للإنسانية شيئاً مما فقدته، وتعيد تصويب فهمها لذاتها بعد عقود طويلة من التبلد، والغرور !!