(من جماليات فنِّ القول العربي)
لم يكن القولُ العربيُّ شعرًا وقرآنًا ونثرًا إلا تعبيرًا عن العقل العربي في أطوار تشكّلاته ، لذا لا نستغرب تلك القفزة الفكرية الحضارية في التاريخ البشري خلال سنين معدودة من تنزُّل القرآن ، وقد تساوق مع سَنَنِ العرب في التعبير، فتنزلت آياته شاهدةً على رقي العقل العربي آنذاك ، وأسْتفتحُ قولي بآيتين كريمتين تعززان تلك الرؤية ، يقول تعالى " وقال الملكُ إني أرى سبعَ بقراتٍ سِمانٍ يأكلُهُنَّ سبعٌ عجافٌ وسبعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ يابساتٍ يا أيها الملأُ أفْتُوْنِي في رُؤيايَ إن كنتم للرؤيا تعبُرُوْنَ ، قالوا أضغاثُ أحلامٍ وما نحنُ بتأويلِ الأحلامِ بعالمينَ" (سورة يوسف ، الآيتان 43 ، 44 ).
لقد وردت لفظة الضِّغْث وأضغاثُ في القرآن ثلاث مرات ، إحداها بمعناها اللغوي المعجمي وهو : قبضةٌ حشيشٍ مختلطةُ الرَّطْبِ باليابس، والطويل بالقصير وما يؤكل من العشب بما لا يؤكل ، وردت في قوله تعالى مخاطبًا النبيَّ أيوبَ عليه السلام لِيَبَرَّ بيمينه بعد أن حلفَ لئن شفاه الله لَيَجَلِدَنَّ زوجَه مائة جلدة ، فخفف الله عنه بأن يأخذ حزمة من الحشيش ملْء الكفَّ عددها مائة ليضربَها بها " وخذْ بيدِكَ ضِغْثًا فاضْرِبْ بهِ ولا تحنثْ"( سورة ص ، الآية 44 ".
وأما المعنيانِ الاستعارِيَّانِ فقد ورد أحدهما في سورة يوسف التي ذكرتُها سابقًا ، "قالوا أضغاث أحلام" ، وجاءت اللفظة لتدل على حالة الأحلام المختلطة التي رآها الملك ، سبع بقرات سمان يأكلهنَّ سبع عجاف( هزلى) ، وسبع سنبلات خضر يأكلهنَّ سبع سنابل يابسات ( ميتة )،والمعروف أن الضعيفَ لا يأكل القويَّ ، وأن الميتَ لا يأكل الحيَّ، ومما أضاف جمالًا للنص قولُ الملك ، إني أرى ،وكأن الرؤية لا زالت ماثلة أمامه مستمرة لم تتوقف ، إضافة إلى تأكيد الفعلين يأكلُ بنون التوكيد الثقيلة ، أي حدوث الفعل مؤكَّدًا مرتين ، ثم إن الحدث الرؤيويَّ مرتبط بالحراثة من خلال (البقر) وبنتاج الأرض (سنابل)،فاستحالة حدوث ما رآه الملك واقعًا يستوجبُ قولَ الملأ : إنه أحلام مختلطة ، ملتبسة عليهم ، لا يعلمون تأويلها احتياطًا مستقبليًّا ؛ وكان التأويل متماهيًا مع حالة الرؤيا بقر، سنابل ، معبَّرًا عنها بأضغاث ( حشيش)، لذا كان يوسفُ النبيُّ ابن النبيينَ عليهم السلام أعلمَ بتأويلها وله تجربة بالتأويل من قبلُ مع صاحبي السجن كما له تجربة مع الرؤيا التي قصَّها صغيرًا على أبيه يعقوب في بداية السورة، وقد فسر رؤيا الملك على سِنِيِّ الجدب والخصب كما ذكرتِ الآياتُ من بعدُ.
وقد اُسْتُخْدِمَتِ اللفظةُ ثانيةً من حيث الدلالة الاستعارية في وصف مشركي قريشٍ للقرآنِ الكريم بأنه أضغاث أحلام حينما عجزوا عن الإقرار بحقيقته الإعجازية الواقعية،" بل قالوا أضغاثُ أحلامٍ بل افتراهُ بل هوَ شاعرٌ فليأتِنَا بآيةٍ كما أُرْسِلَ الأوَّلُونَ "،(سورة الأنبياء،آية5) ، فلقد اضطرب المشركون في وصف القرآن ؛ فقالوا أضغاث أحلام ،أي : أقوال مختلطة متناقضة ، بيد أنهم استدركوا بعد أن تأملوه قراءةً – وهم أهل البلاغة - فوجدوه ببيانه الراقي ليس كذلك ، فقالوا : بل افتراه ( ابتدعه محمد )،لكنهم علموا وهو يعيش بينهم أنه لم يكُ بِدَعًا من البشر افتراءً أو تأليفًا ،ثم أضربوا عمَّا سبق ، فقالوا بل هو شاعر ولم يقولوا إن القرآنَ شعرٌ ؛ لأنهم يعلمون الشعر هزجه ورجزه وقصيدَه، لذا جاءت آياتٌ أخرُ تنفي عن القرآن صفة الشعرية وعن الرسول عليه السلام صفة الشاعرية ، وحينما عجزوا عن وصفه لأنهم لم يألفوا من قبلُ مثلَ هذا الكلامِ طلبوا أن يأتيَ لهم بآية كونية مادية غير عقلية بيانية ، وكان ذلك كافيا بإقرارهم أن القرآن ليس بقول شاعر أو كاهن أو ساحر أو مجنون كما زعموا من قبلُ.
ومن حيث التسلسل التاريخي للآيات الثلاث ، كانت أضغاث أحلام على لسان الملأ في سورة يوسف أولا ، ثم في الثانية ضغث التي طُلِبَ من أيوبَ أخذها ليضرب بها زوجه حقيقة ، ثم قول مشركي مكة أضغاث أحلام في الثالثة ، وهذا الترتيب الزمني له قيمة بيانية في أن القرآن المحفوظ في اللوح لم تستعمل ألفاظه وتعبيراتهُ بشريًّا قبل التنزل ، بينما كانت العربية مستخدمةً وناضجة معجميًّا واستعاريًّا.
لقد وردت ضغثٌ وأضغاثٌ في فن القول العربي - شعرا ومثلًا - قبل تنزل القرآن مُنَجَّمًا على مدى ثلاث وعشرين عاما ، يقول الشاعر الجاهلي تميم بن أُبيّ بن مُقْبِل يصف امرأة ناعمةً منعمةً قد غُطِّيَ فراشُها بأضغاث الرَّيحان الذي يتضوع عطره كلما هبت ريح الشَّمال(ديوانه ، تحقيق د.عزة حسن ، دار الشرق العربي ، بيروت ،1995م،ص190):
خُوْدٌ كَأنَّ فِرَاشَهَا وُضِعَتْ بِهِ أضْغَاثُ ريْحَانٍ غَدَاةَ شَمالِ
ومن أمثال العرب ، قولهم في حدوث بَلِيَّة على أخرى : ضِغْثٌ على إِبَّالة، والإبالة :حزمة الحطب .
وبعد، فالقرآن كلام الله الذي عبر عن أحداث الأمم السابقة وحواراتهم وألفاظهم وأساليبهم الخطابية بلغاتهم الأصلية التي تختلف عن العربية بلسان عربي مبين ، فهو ألفاظ وأصوات وإيقاعات محملة بدلالات ضمن سياقاتها ، لكنها إذا ما نُقِلت أو تُرجِمت إلى لغة أخرى فقدت قدسيتها الإلهة وبيانها الجمالي وإيحاءاتها الدالة، فلا يصح حينئذٍ وصفها بالقرآن لأنها ستكون مُنْجَزًا بشريًّا ناقصًا ، وكلام الله ليس كذلك ، وقد استطاع القرآن الكريم استنهاض اللغة العربية ليس بألفاظه وحسب بل بأسلوبه وبيانه وجرسه وما كان ينقص العربية لتستويَ لغةً عالمية حضارية حيةً إلا القرآن الذي أضحى مُحَفِّزًا فكريًّا كالشعر الجاهلي الذي سبقه لاستنفار العقل العربي بناءً وتشكيلًا وجمالًا.