كانت غالبية اليهود عشية قيام الثورة الروسية تقطن في المناطق الجنوبية والغربية من روسيا. وكان عددهم آنذاك يبلغ حوالي 4.25 مليون من أصل 7.5 مليون يهودي منتشرين في شتى ارجاء العالم. ويعود السبب في ارتفاع نسبة عدد اليهود في روسيا الى وصول إعداد كبيرة من اليهود البولنديين اليها في أعقاب التقسيم الثالث لبولندا عام ١٧٩٥ إبان حكم كاترين الثانية، والذي حصلت روسيا بموجبه على دوقية وارسو وما جاورها من مناطق في أوكرانيا وبيلوروسيا التي كانت تضم حولي ١،٤ مليون يهودي (كان اليهود في تلك الفترة موزعين في بلدان العالم على النحو التالي؛ روسيا وبولندا ٠/٠٥٦،٢ النمسا والمجر ٠/٠٢٠ أوروبا الغربية ٠/٠١٣،٣ اسيا وافريقيا. ٠/٠٦،٤ الولايات ألمتحدة ٠/٣،٣ فلسطين ٠/٠،٨ ) . وكان اليهود يعمل ٠/٠٦٨ منهم في التجارة والوساطة و٠/٠١١،٦ في المهن الاختصاصية و ٠/٠١،٩ في الفلاحة.
وكان اليهود الروس يقيمون ضمن تجمعات خاصة بهم أشبه بالمستوطنات الخالية في فلسطين. وكانت تقام كل واحدة من هذه التجمعات خارج حدود المدن والقرى الروسية بحيث كان يتم اختيار موقع استراتيجي لها بحيث يضمن لقاطنيها سهولة الوصول الى أماكن عملهم في المناطق المأهولة بالسكان من ناحية، والعزلة وعدم الاختلاط بجيرانهم الروس من ناحية اخرى. وكان لكل تجمع مجلس اداري خاص يتولى تسيير. الأمور الداخلية وتنظيم علاقاته مع التجمعات اليهودية الاخرى. وقد اطلق على هذا النظام الاداري اسم كهال Kahal، بينما عرفت التجمعات اليهودية في روسيا الغربية باسم "حظيرة التوطن ليهودية" Pale of Settlement ، وهي تسمية بولندية الأصل. كما صدر في أعقاب التقسيم الثالث لبولندا قانون روسي حدد إقامة اليهود في مناطق معينة من البلار ومنعهم من مغادرتها والسكن خارجها الا في حالات استثنائية وبموجب إذن خاص من الجهات الرسمية.
ويلاحظ ان هذا النموذج من التجمعات اليهودية في روسيا لم يكن معروفا على هذا النحو في أوروبا الغربية، نظرا لان المدن الغربية كانت مدنا كبيرة ومزدهرة وتمتلك إمكانات اقتصادية واسعة، وقد وجد اليهود ان بامكانهم الاستقرار داخل حدود هذه المدن ولكن ضمن احياء خاصة بهم اصطلح على تسميتها جيتو Ghetto او حارة اليهود Judengasse كما عرفت بالألمانية. ويعود أصل الكلمة الى كلمة بورجيتو الإيطالية التي تعني قسما صغيرا من المدينة.
وقد تعرضت اوضاع اليهود الاقتصادية والاجتماعية الى هزات كبيرة في أعقاب التطورات التي شهدتها روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اذ أخذت الطبقة الوسطى تبرز تدريجيا الى حيّز الوجود في أعقاب إلغاء الفنانة الروسية عام ١٨٦١. وكانت هذه الطبقة في أوروبا الغربية هي التي تولت قيادة ثوراتها الشعبية ضد الطبقات الأرستقراطية والإقطاعية واستطاعت ان تحقق الانتصار تلو الاخر، كما نجحت عام ١٨٤٨ في الوصول الى دفة الحكم في غالبية دول أوروبا الغربية. وفِي هذا الوقت بالذات كانت الطبقة الوسطى الروسية غائبة الى حد كبير عن مسرح. الأحداث، اذ كان النظام الاقطاعي لا يزال مهيمنا في روسيا ، وكانت غالبية فىات الشعب ترزح تحت قيود الفنانة . وبالرغم من ظهور الفىات المستنيرة ( الانتلجنسيا Intelligentsia ) ومشاركتها في ثورة الديسمبريين التي فام بها عام ١٨٢٥ مجموعة من الفىات المتأثرة بالافكار الليبرالية الغربية ، الا ان دور هذه المجموعة ظل محدودا ولَم تستطع.ان تكون بديلا للطبقة الوسطى وتقوم بتأدية دورها ، ويمكن اعتبارعام ١٨٦١ حين اصدر الإسكندر الثاني فرمان تحرير الأقنان مؤشر البداية لظهور الطبقة الوسطى الروسية.
أدى الظهور التدريجي للطبقة الوسطى الروسية الى قيام حركة تنافس شديدة بينها وبين التجار اليهود من جهة، اضافة الى تضييق سبل العيش امام الحرفيين اليهود من جهة اخرى. وَمِمَّا قوى شوكة هذه الطبقة الروسية تدفق رؤوس الاموال الأوروبية الغربية على روسيا بحيث فتحت آفاق استثمار صناعي واسع أدى في النهاية الى اندثار الحرف الصغيرة والتجارة المحدودة وعمليات الربا التي كان غالبية اليهود الروس يعتمدون عليها في معيشتهم. وقد عبر احد كبار دارسي النظام الرأسمالي فيرنر سومبارت F . Sombart ملخصا هذه الظاهرة بقوله: "يعود بؤس اليهود في روسيا الى فترة إلغاء الفنانة ولنظام الاقطاعي بمجمله. لقد وجد اليهود فرصا واسعة للاستثمار كتجار ووسطاء طوال فترة وجود الاقطاع والفنانة".
وهكذا وجد غالبية اليهود الروس أنفسهم امام تحد اقتصادي كبير يقتلعهم من مواقعهم التجارية والحرفية. التقليدية ويضطرهم الى هجر مستوطناتهم والتدفق في هجرات واسعة صوب المدن الروسية التي أخذت تنمو بسرعة وتنتشر فيها الورش والصناعات الثقيلة. غير آنه لم يكن بمقدور الحرفي اليهودي في المدينة الروسية النامية الصمود امام هجرات الفلاحين الروس الوافدة من الريف في أعقاب تحررها من السلطة الإقطاعية. لقد كان بوسع هؤلاء الفلاحين الذين اعتادوا منذ زمن بعيد على المستوى المعيشي المنخفض والعمل الجسدي الشاق ان يتحولوا الى طبقة عاملة تتحمل صعوبة الحياة ومشقتها اما الحرفي اليهودي ففي الوقت الذي لم يكن بمقدوره منافسة المصانع الضخمة نجده يواجه صعوبة كبيرة في التحول الى صفوف الطبقة العاملة. ويلاحظ انه بالرغم من انخراط عدد من اليهود الروس في سلك العمل بالمنشآت والمشاريع الصناعية، إلا انهم تعرضوا لضغوط شديدة في شتى المجتمعات اليهودية في روسيا وخارجها لإبقائهم بعيدا عن التنظيمات العمالية الروسية خوفا من ان تنتقل اليهم عدوى الأفكار الثورية، وان كان لا بد من انخراطهم في تنظيمات عمالية فلتكن تنظيمات عمالية يهودية صرفة كحركة البوند (الاتحاد العام للعمال اليهود) والمنظمة الصهيونية العالمية. وقد اضطرت هذه الظروف الصعبة الحرفي اليهودي الى التفكير ثانية في الهجرة، ولكنه بدل ان يلجأ هذه المرة الى مناطق اخرى داخل روسيا أخذ يتجه نحو الهجرة الى الخارج. وكان توجه الهجرات اليهودية في تلك الفترة صوب أوروبا الغربية التي كانت قد قطعت شوطا واسعا في التطور الرأسمالي وكانت أمريكا الشمالية مكانا اخر استقطب اهتمام الكثير من اليهود للهجرة والاستيطان فيه. فالظروف الاقتصادية في أمريكا في أواخر القرن التاسع عشر كانت تتحسن بصورة مطردة. وشكلت الامكانات المعيشية الواسعة فيها حافزا كبيرا لليهود الروس كي يهاجروا اليها ويستوطنوا فيها. ويلاحظ من الإحصائيات ان عدد اليهود الروس الذين هاجروا الى أمريكا في هذه الفترة بلغ حوالي ٧٥٠ الف نسمة، ولكن هذا العدد تزايد بقفزات سريعة في العقود التالية.
ولعل ما اجبر اليهود على هذه الهجرات هو موقف الطبقة الوسطى الروسية الأخذ انداك في الصعود المتزايد والتي دفعتها تطلعاتها المادية صوب المزيد من توسيع أعمالها ونشاطاتها لتستحوذ على السوق المحلية وتتخلص من اأي منافسة من جانب القوى الاقتصادية التقليدية. وكانت هذه القرى تتضمن أعدادا كبيرة من اليهود ممن كانوا يسيطرون على الحرف. الصغيرة والمواد الاستهلاكية. ويلاحظ ان الفئات الحرفية اليهودية كانت تلجأ باستمرار في المراحل الاولى لنمو الرأسمالية وصعودها في بلد معين، الى الهجرة من ذلك البلد.
والبحث عن مجتمعات إقطاعية اخرى كي تعيش متطفلة عليها كما كان عليه الحال في كنف الأنظمة الإقطاعية التي كان يطلق عليها البويارز Boyars والتي كانت تعتبر القوة المتنفذة في روسيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
ولعله من المناسب في هذا المجال التوقف قليلا لتفسير الظاهرة التي يتناولها العديد من الباحثين الغربيين حول المعاناة والاضطهاد التي قيل ان اليهود كانوا يتعرضون لها في روسيا اكثر من غيرهم خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين فالسلوك الاقتصادي اليهودي وارتباطه بخدمة الاقطاعي الروسي في استغلاله للفلاحين من أبناء شعبه لم يؤدي الى كراهية هؤلاء الفلاحين للإقطاعيين الروس وحدهم وإنما تجاوز ذلك ليشمل على نحو أشد اليهود الذين كانوا يقومون بدور الوسيط في عملية استغلال الفلاح الروسي لصالح الاقطاعيين والمتنفذين، وَمِمَّا زاد من هذه الكراهية العزلة التي التزمها اليهود بعدم اختلاطهم بغيرهم من سكان البلاد، مما أدى الى بقا،هم في نظر هؤلاء عنصرا غريبا ينتفع بخبراتهم ويزاحمهم في أرزاقهم. . وقط انتهزت الطبقة الوسطى الروسية الفرصة وأخذت تنظم حركة مناهضة لليهود واضطهادات متلاحقة عرفت باسمها الروسي بوجروم Pogrom . الا ان هذه الاضطهادات لم تبلغ من القسوة حدا لم تتعرض له فىات روسية اخرى كالإقنان ووالفلاحين .
غير ان المعاناة اليهودية وجدت من يصورها بحجم مبالغ فيه وبطريقة يسهل استغلالها لتعميق احساس اليهود بعقدة الاضطهاد والظلم مما يحفزهم لمزيد من التالف والتكاتف فيما بينهم واللجوء الى المزيد من العزلة ليتسنى لهم تأمين مصالحهم وتطلعاتهم الذاتية بشكل أحسن وأفضل ، ناهيك عن سعيهم الدايم لاستدرار عطف وشفقة شعوب العالم لموازرتهم والوقوف الى جانبهم ورفع اَي ضيم يلحق بهم . وقد أدى تردي احوالهم الاقتصادية والاجتماعية الى البدء بالهجرة صوب الدول الغربية . وقد شكلت هذه الهجرات اعباء ثقيلة على كاهل البرجوازية اليهودية في أوروبا الغربية والتي ادركت ان هؤلاء الوافدين الجدد ليس من السهل عليهم الأنرماج السريع في مجتمعات أوروبا الغربية وتخطي الحواجز اللغوية والثقافية التي كانت تفصلهم عن هذه الشعوب . وخشيت ان يودي ذلك الى نمو حركات معادية لليهود تنعكس اثارها السلبية على جميع الشرائح اليهودية على شتى مستوياتها.
وَمِمَّا زاد من تخوف البرجوازية اليهودية إمكانية انضمام الشراىح الفقيرة من اليهود الروس الى الحركات الثورية والأحزاب اليسارية المناهضة للانظمة الرأسمالية ومن ضمنها النظام الروسي القيصري الذي أخذ يتبنى هذا النهج منذ أواخر القرن التاسع عشر . ويدت هذه الظاهرة وكأنها تلقي. ظلالا من الشك والريبة على وطنية واخلاص٪اليهود عامة للبلاد التي كانوا يعيشون فيها. وبالاضافة الى ذلك فانه نظرا للاستثمارات الواسعة التي كان يحتكرها العديد من البرجوازيين اليهود الغربيين في روسيا . فقد ادرك هولاء ان العسارة ستحيق بهم اذا ما حدثت ثورات او اضطرابات فيها . وأدى هذا الى دفع البرجوازية اليهودية للبحث عن مكان خارج القارة الأوروبية
يوجهون اليه مسار هذا السيل المتدفق من المهاجرين .... وعندها برز الحل الصهيوني !!!