الهوية الوطنية والهويات الفرعية القاتلة
د. ماجد الصمادي
03-05-2020 01:30 PM
لم يكن الروائي اللبناني امين معلوف يستشرف المستقبل حين اصدر كتابه (الهويات القاتلة) قبل اكثر من عقدين من الزمن، بقدر ما كان شاهد عيان يصيغ سيرة ذاتية عايشت حرباً اهليةً مؤلمةً مزقت الوطن اللبناني، ونحرت مشروعه الحداثي في ان يكون (سويسرا الشرق) على مذبح الهويات الفرعية القاتلة. فقد انتقلت عدوى الهويات القاتلة الى دولٍ تاريخُها ضاربٌ في القدم، كالعراق وسوريا واليمن، وأخرى مثل ليبيا والجزائر بمجرد اضعاف الهوية الوطنية الحاضنة للهويات الفرعية والضابطة لتراتبيتها.
تكوين الهوية يخضع للسياقات، فالهوية- أي هوية- تنكفي وتتراجع او تتطور وتنمو تبعاً للسياقات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية ولا يمكن فهم الهوية الا بمقدار النظر والتقدير للاخر والعلاقة به، والهوية في حالة نمو وحراك مستمر، بصفتها مكوناً مركباً وليس بسيطاً، تُحَدَد تراتبيتها (هرميتها) تبعاً للسياق فتطفو هوية احياناً وتطغى ، بينما تندثر هوية اخرى وتخبو.
الهويات الفرعية تذكيها وتبرزها الصراعات ، ولا يخفى على احد ان الدولة الحديثة معنيةٌ في ضبط ايقاع نمو الهويات الفرعية وهرمية تراتبيتها، فالدولة الحكيمة تعظم الاستفادة من النسج والتماسك الافقي لتعزيز الهوية الوطنية، فمع انشاء الدولة الوطنية في الدول العربية، اُستحدثت علاقة جديدة ارضيتها المواطنة والدستور والقوانين الناظمة لشؤون الوطن المستحدث. وهذا كله غريب على الثقافة العربية وارثها التاريخي المعتاد على سطوة اغلبية الدين او العرق او المذهب او القبيلة او الجنس، لذلك كانت الهوية الوطنية ضحية أي ضعفٍ او اضعاف لمؤسسات الدولة الوطنية وبروز الهويات القاتلة المتقاتلة على ارضيات مختلفة، منها التناقض المفترض بين الهوية الوطنية والهويات الفرعية -كالهوية الدينية مثلاً -او الرفض الثقافي لفكرة الدولة كمفهوم غربي وافد على الثقافة العربية.
لم يتوطد مفهوم المواطنة في عقل ووجدان المواطن العربي، ولم يستوعب بان بانشاء الدولة الوطنية اصبحت الرابطة الوطنية، وما يترتب عليها من علاقات، هي الاقوى بين افراد الوطن الواحد، ولم تعد مفاهيم الاكثرية والاقلية، ومصطلح التسامح مع أي مكون وطني مناسباً او مقبولاً في الدولة الحديثة ، فالمواطنة ليست منة الاكثرية على الاقلية، وعليه فان الهويات الفرعية الدينية والعرقية والمذهبية والقبلية تصبح هويات روحية و اجتماعية وثقافية داعمة للهوية الوطنية الجامعة ، فلا تناقض ولا تعرض ولا تضاد بينها جميعاً وبين الهوية الوطنية.
فهم الادوار والوظائف للهويات الفرعية و احترامها وتنميتها ، و تصفيف تراتبيتها ضمن الهوية الوطنية، كفيلٌ بان لا تطغى وتتحول أي هوية فرعية الى هوية قاتلة، بل على العكس تصبح مصدراً للاثراء الاجتماعي والثقافي واللغوي المعزز لقوة الوطن ومنعته ورفعته وبقاؤه. وهذا بلا شك يتطلب عملاً دؤوباً ومتواصلاً من قبل النخب الفكرية والسياسية، بقيادة مؤسسات الدولة، لابتداع الأفكار والسبل العمليَّة لدمج الهويات الفرعية وتسطيحها تحت عباءة الهوية الوطنية مع احتفاظ كل هوية فرعية بخصوصيتها وتطلعاتها وتمايزها المشروع الذي يكفله لها الدستور.